الخاتمة: الحلقة 1




الحياة كما أراها، رحلة عبر البحار والمحيطات، نتوقف بين تارة وأخرى عند محطات شاطئية، باحثين عن سفن موجية كي تقذفنا بعيداً عن وجهتنا الأساسية. ولكننا نتمرس خلالها في مهنة القبطنة. وفي بعض الأحيان، عندما نتعب من امتطاء الأمواج، نعود إلى مكاننا الأول حيث الطمأنينة (التي توفرها الأساطير الاخلاقية والدينية) وحيث الأمان الفارغ من نشوة المغامرة، فنجد أنفسنا نخوض في ممارسة جنسية آلية خالية من طقوس استكشاف الطرقات والمنعطفات الجسدية. فنحرم ذاتنا من استقبال التموجات المغناطيسية الطبيعية التي يمكنها أن ترسلنا إلى سماوات تعلو على جميع مخابئ الآلهة الساكنة في الخيال الإنساني.
إنها رحلة مستمرة ما بين المد والجزر؛ ما بين التزلج على الأمواج والإستلقاء على الرمال؛ ما بين المشاعر المكثفة المتعاكسة فيما بينها، والتي تصل إلى ذروتها عند لحظات المغامرة، وبين لحظات الركون الهادئة والميل للعودة الى برنا الهادئ المؤقت لاحتساء أقداح تأمل تحفز على مداعبة الخيال والسفر في كل الطبقات الكونية، قبل العودة للمباشرة في رحلة لا تنتهي إلا عند لحظة الجماع مع الموت.



لقد تكلمت في هذا الكتاب عن بعض النظريات التي تناولت منابع الآلهة والروحانيات لألقي الضوء على أفكارها الأولى التي تشعبت عبر الزمن وتطورت حتى أصبحت سراديبَ يصعب على الفرد الخروج منها وخصوصاً عندما يرزح تحت وطأة ثقافة- اجتماعية متشنجة تسحق كل فرد يحاول الخروج من شرنقتها.
وحتى اليوم، فما زال الإله يجسد جميع الصراعات النفسية المتنازعة فيما بينها، كما يجسد رغبة جماعة ما في السيطرة على أخرى، وهو ما يعني أن الإله لم يصل، بعد، إلى مستوى النضوج الروحاني لدى مؤمنيه، فما زال في مرحلة الإرهاصات الأولى. وفي المقابل، فقد تجاوزت الأديان حدود أرضيتها النفسية لتشرعن نفسها قاضياً ومعلماً وناصحاً وجلاداً على كل من يؤمن بها ولتمتد كالأخطبوط وتُطبق على عقل هذه المجتمعات.
ليس من الصعب على المجتمعات الدينية أن تجد طرقاً وأساليب للسيطرة على أفرادها واستهلاكها لصالح فئة قليلة تحت ذريعة الدين والإله واضعة بذلك جملة من شروط وقواعد جماعية تحصرهم ضمن نطاق ضيق.
ولكن ما هي الآليات والوسائل المعتمدة من قبل هذه الفئة للحفاظ على سلعتها (الفرد)؟
لا شك أن جميع المجتمعات، مهما تفاوتت درجة وعيها وإدراكها واختلفت ثقافاتها، تسعى إلى الحفاظ على الهيكلة الاجتماعية والمصالح العامة من خلال إيجاد توازن ما بين اكتفاءات الفرد والجماعة ولو في نطاق الحد الأدنى. إلا أنه في مجتمعاتنا الدينية يتم إلغاء متطلبات الفرد وحصره ضمن علبة صغيرة لتحرمه من التمتع بأحاسيسه الخاصة وتمنعه من الغوص في خياله الرحب من دون رقابة. ومن أجل إحكام الرقابة الداخلية عليه، فإنها تبدأ بغرس صورها المشوهة تاريخياً وتقوم بتعظيم الأنا الجماعية التي تستمد قوتها من دينها وإلهها المعظم. ولكي تجعل هذا ممكناً، فإنها تعطي الفرد بعض الحقنات المورفونية لترسله إلى عالم حاكت قصصه وتاريخه بيدها.
ولدى النظر إلى المجتمعات التي ارتفعت فيها رتبة الفرد إلى أكثر من مجرد رقم زائل، فإننا نجدها في سعي دائم لتأمين شروط حياتية جيدة للأفراد تتناسب مع التطور الكلي وذلك لوعيها بأهميتهم، فمنهم تخلق الثقافات وتتطور المجتمعات. أما في مجتمعاتنا، فنلاحظ أنها اعتمدت على تحويل الفرد إلى كائن تنحصر همومه ومتطلباته في إشباع حاجاته الأساسية الضرورية للبقاء. أي أن الدين يلجأ إلى التوغل في حياة الأفراد وذلك لتسهيل عملية الإخضاع والهيمنة عليهم، مما يسبب لهم معاناة طويلة و"يوفر" لهم حالة من عدم الاكتفاء المزمن.
ومن أجل السيطرة بشكل حازم على كافة مكونات المجتمع، تلجأ الثقافة الجماعية لحياكة "نظرية مؤامرة"، لتكون الدواء الوحيد للشعوب العاجزة عن إعطاء الجديد، ولتقوم بعملية إعادة ترتيب صورها التاريخية بطريقة تناسب نظريتها المزعومة. ولتختلط الصور بين انتصارات وانتكاسات مع كمية من مشاعر الإحباط الناتجة عن الفشل في تحقيق الغاية.
يمكننا القول: إن نسبة وجود الشحنات المحفزة للعمل والإبداع عند أفراد هذه المجتمعات معدومة أو شحيحة إلى حد أنها لا تكفي لتحريك الإرادة الجماعية، فتبقى عاجزة عن مواكبة تطور الحركة البشرية. وتلجأ هذه المجتمعات وبشكل إضطراري إلى تحديد ما هو الأفضل أو الأسوأ لها بالإرتكاز على جملة قياسات تاريخية وثقافية ومشاعرية خالية بشكل عام من النظرة الإيجابية للمستقبل.
تقوم الجماعة بشكل عام بتحديد المصطلحات والمشاعر حسب الوعاء الثقافي وما يحمل في طياته من معتقدات وعادات وسلوكيات والتي هي حصيلة لدرجة الوعي لدى جماعة ما في فترة زمنية معينة.
وبما أن هذه المجتمعات ترتكز على أسس لا تتمتع بأي حراك، نراها سجينة نفسها وقيمها ومصطلحاتها، لتقوم بالتقوقع ضمن دائرة زمنية وحقبة تاريخية، فتحاول جاهدة تكرار التاريخ من جديد بحثاً منها عن صور وتمثيلات عقلية علها تعوض حقبات الحرمان.
وقبل الدخول في الترهات التاريخية والنفسية للمجتمعات التي ما زال أفرادها يعانون من الاستبداد على جميع المستويات، دعونا نفسر النظرة المختلفة لمفهوم "الأفضل والأسوأ" من قبل الثقافة –الاجتماعية وعلاقة هذا المفهوم بنسبة مستوى الوعي والإدراك للأفراد والمجتمعات.
نجد أن عملية الإدراك مقترنة مع عملية الإحساس بكل ما هو خارج عن الكيان الجمعي أو الفردي، بالإضافة إلى وجود العامل الإحساسي المشترك الذي يساهم بتحويل العبارات والكلمات الصادرة عن أنوات مختلفة والتي تخبئ في أجوافها تجارب إنسانية إلى عملية توحد بينها وبين متلقيها. 
فالإنسان، وبشكل عام، لا يستطيع لمس معاني كلمات هاربة من قاموسه الثقافي، وذلك يعود لنقص في التجربة الحسية، إذ لا يمكن للإنسان الشعور واستيعاب تجربة مختلفة في أحاسيسها ومعطياتها عن أحاسيس تجاربه المستوحاة من نموذج ثقافته وتجربته. فمن أكثر الأسباب التي تحد قدرة الأفراد والجماعات على التعاطي والتجاوب مع كل ما يختلف عنهم هو غياب ذلك العامل الإحساسي الذي يجعلهم يتفاعلون مع حدث أو يشعرون به دون غيره.
 وبإلقاء نظرة على المجتمعات الدينية في عصرنا هذا، نجد اختلافاً كبيراً بينها وبين المجتمعات التي استطاعت تنحية الدين عن العقل. فالمجتمعات ذات المنشأ الديني والتي تعتمد اعتماداً كلياً على الغيبيات، عاجزة عن التماشي مع المتغيرات الخارجية وذلك لإيمانها المطلق بحتمية القضاء والقدر والذي يولد عنه إستسلام سلبي للواقع، وليقود الفرد أو المجتمع نحو التخلي عن مبدأ الحراك من أجل التغيير... يتبع 
_________________________________________________________________