الخاتمة: الحلقة3




لقراءة الخاتمة الجزء الأول
لقراءة الخاتمة الجزء الثاني


تتبنى الجماعة قضية الدين والله لتستطيع الوقوف ضد عملية التغيير، فنجدها تقف كالصخرة لتقوم بكبح مسار الأفراد وكل من يرغب منهم بالتمرد على هذا الواقع، فلا تلبث الجماعة أن تحول هذه المحاولات الفردية إلى شعور بالفشل عند أفرادها، مما ينتج عنها حالات مرضية نفسية، فينعدم التوازن ما بين المد إلى الخارج، والجزر إلى الأعماق والمخيلات.
يشكل الفرد نواة التوازن في المجتمع. فأي تراجع أو خلل لديه نجده ينعكس بشكل مباشر على جماعته. ومع خضوع الفرد تبتعد الكتلة الجماعية عن الحلول الواقعية لتطوير المجتمعات. وبإبتعادها نرى هيام هذه المجتمعات بالفانتازيا لمجابهة الرغبات الدفينة في الأعماق، فتختلط الرغبات المكبوتة في الداخل بالضغوطات الخارجية، لينشأ عنها تناقض واضح في شخصية أفرادها. مما يؤدي إلى فراغ سوسيو- ثقافي يعطل القدرة على التجديد والإبداع واجتراح المخارج من التجارب الفاشلة. ولأن المجتمع الرافض لأي معطيات خارجية غريبة عن جسده وعن وعائه الثقافي أو عن تراثه أو معلوماته، يصاب بحالة من الجمود، ولأن المعرفة والوعي تستمدان نضوجهما من غزارة المعلومات والتجارب واكتساب الجرأة على كسر الدائرة الضيقة للمحيط المنعزل الذي يسبح أعضاؤه (الأفراد) به من دون أي تجديد لعوامله الحياتية والتنفيس عن السموم المكررة، فإننا نحتاج إلى كمية من الإرادة الواعية والصلبة للخروج من أفخاخ الثقافة المقيدة، وذلك بالتخلص أولاً من الشعور الناتج عن الخوف من الأحكام الصادرة بحق الفرد والناشئة، في ذات الوقت، عن ثقافة جامدة لا حراك فيها تكبل أفراد المجتمعات وتكبحهم من السفر في الفضاء الخيالي الواسع.
ينشأ عن هذه الحالة، في إعتقادي، تشنج عند الأفراد ليصيب جميع طبقات المجتمع، بما فيهم قادة فكره. فنجد استحالة بعض المثقفين، سواء كانوا كتاباً أو فنانين أو مبدعين، من الخروج من دائرة رسمت لهم من قبل الجماعة، لتدخله في شرنقة لا تختلف كثيراً عن بقية أفراد المجتمع، ليصبح المجتمع بجميع فئاته، وبالأغلبية، أسيراً لمنهج وأسلوب وإبداع مستنسخ.
 لا شك أن الطريق الأنسب للإنسان والذي يساعده في الخروج من هذه الدائرة الضيقة تكمن بالمعرفة المتنوعة من أجل اكتشاف آفاق جديدة تصب في منفعة الأفراد والجماعة، ولهذا لا بد من الإستناد، أولاً، إلى فكر قابل للتغيير وتبني "اللاحقيقة" التي تعكس ليونة في الإدراك من دون تبني أحكام تقوم على مبدأ "الخطأ" أو "الصحيح" الثابت المؤدي إلى "حقيقة" ما. فكلاهما (أي الخطأ والصحيح) مرتبطان مع بعضهما، ليساهما بالعبور نحو مساحات جديدة من المعرفة. ربما تعكس لنا "اللاحقيقة" رؤية أكثر وعياً للخارج المحيط وللإدراك الذاتي، معتمدة بذلك على الحراك الطبيعي المتغير والخاضع لجملة من القياسات المتعددة. فتبنينا للثوابت يعاكس التغيرات البيئية والزمنية؛ ولهذا علينا، ثانياً، التخلص من جميع الرواسب المبنية على أساس نموذج ثقافي أحادي، وذلك من أجل امتلاك القدرة على التقمص والدخول في ثقافات وتجارب مختلفة.
لقد أعطانا علم البيولوجيا شرحاً موسعاً للنماذج الثقافية والمعرفة متجاوزاً بذلك ما قام به الفلاسفة قديماً بتقييم لـ "النموذج الثقافي الأنوي" والمعرفة. وعلينا ألا ننسى أثر التحليل النفسي واعتماده على علم الأعصاب القائم على تجارب لفهم الجهاز العصبي المبني بدوره على بيولوجيا الدماغ، كي يعطينا مساحة أكبر في تجنب ما نسميه بـ "الأخطاء" (بالمعنى الضيق للكلمة) لنصبح أقل تعرضاً وتفادياً لها. لهذا أجد أن الإنسان المنغلق على مفاهيمه يجد صعوبة في تقبل المستجدات ومواكبة التغييرات، مما يسبب له التراجع الفكري، لأنه في حالة ثبات وعجز عن مجاراة الزمن والتغييرات الطارئة عليه. 
لا ثراء في الفكر من دون التنوع المثمر والتداخل الفكري الجماعي.
بالطبع، ثمة من سيجد ضرورة في إضفاء الدين على الثقافة الجماعية، لترتدي القيم الأخلاقية حلة ثابتة مستلهمة من الأسس الدينية، فيكون (الدين) الحاكم والمكبل للفكر، وذلك كي يعطيه أبعاداً تتجاوز جميع الأبعاد الكونية والتي تؤجج الحالة البدائية "للأنا" الجاهل الهائم في محيط والعاجز عن إدراكه. فيبدأ أولاً بطرح عظمة الحكمة الدينية واستباقها الذات غير البشرية في مفهوم المعرفة. فيطالب بضرورة تقييد الأفراد داخل بوتقة جماعية.
دعونا نبحث عن الأسباب الأولى التي دفعت بالإنسان لخلق جنة ما بعد الموت واستبدالها بحياة واقعية قاسية مليئة بالآلام والذنوب مستندة على مبدأ العقاب الذاتي. فربما تعكس لنا، هذه الجنة الأبدية، بشكل لاواعي رغبة الإنسان الدفينة للرجوع إلى رحم أمه حيث الأمان والطمأنينة، لتتحول إلى فانتازيا خيالية وجنة مفقودة يبحث عنها في خيالاته اللامتناهية مبتعداً بذلك عن واقع لم تلعب إرادته في اختياره. هذه الجنة التي تخلو من العقاب والمكافأة والآلام والفرح والتعاسة والسعادة، تشبه بشكل كبير حالة الجنين في رحم أمه حيث تنطفئ جميع المشاعر المتناقضة، حيث تبدو الذاكرة الطويلة الفردية خالية من أي ذكريات وتجارب مخزونة، وتنسجم مع جنة العدم حيث اللاشيء بعد حالة الموت، لتعود ذراتنا إلى الحاضنة الكبرى (الطبيعة) فنتخلص بذلك من كل أنواع القلق الذي رافقنا بشكليه الواعي والمبطن منذ الولادة إلى لحظة الموت. تلك هي الجنة الناتجة عن الرغبة في البحث عن الخلاص، وقد صُبغت في فترة معينة بلون غيبي بعد أن حددنا إمكانيات الفرد ضمن أوعية اجتماعية وتم أسر حريته داخل إطار حياتي واعٍ، فنسينا بذلك المعنى الأعمق للحرية والذي يعبر عن التحرر من كل أشكال الأرق الناتجة عن وعينا لهذه الحياة.
أعتقد أن رحلتنا في هذه الحياة، إن كانت فردية أو بشرية جماعية، تبدأ أولاً من خلال عملية بحث وتفتيش عن طرف خيط يقودنا إلى الإنسان الحر القابع في داخلنا وفي داخل كل العناصر الحياتية بهدف ملامسة النظام الطبيعي قبل الوصول إلى نقطة العدم والتصالح مع فكرة الموت.
علينا أن نبدأ تدريجيا بالبحث عن الحرية. مع أن الحرية التامة، كما أعتقد، لن نجدها إلا بعد رجوع جزئياتنا إلى غلافها الطبيعي متخلصة بذلك من سجن غلافيها الجسدي وتفاعلاتها النفسية لتسبح في فضاء واسع حر. 

ولكن ربما كان علينا البحث عن وعي أكبر لذاتنا ولجميع الذوات الحية قبل الحديث عن الحرية التي تعبر بمفهومها الواسع عن حالة انفلات من الالتزامات الجسدية والاجتماعية والفيزيائية. فنحن محكومون بإمكانيات محددة سواء كانت جسدية أو فيزيائية، زيادة على أننا محكومون بجملة من شروط اجتماعية وثقافية وأخلاقية تم تلقيننا إياها. لهذا نستطيع القول: إن سعينا في هذه الحياة يجب أن يكون خلف المعرفة التي تساعدنا على استخدام أكبر لإمكانياتنا وقدراتنا. فكلما تزداد المعرفة بالقوانين الخارجية المحيطة، يزداد إحساسنا ويتوسع إدراكنا لاكتشاف قوانين فيزيائية كونية، لنكتسب حرية جزئية نسبية خاضعة لجملة قوانين كونية. أي أن الحرية وما تعنيه هي عبارة عن وحدة قياس نكتشف من خلالها درجة وصولنا لتحقيق استقلالية ذاتية داخل المحيط الذي نعيش فيه... يتبع 

لقراءة الخاتمة الجزء الرابع
لقراءة الخاتمة الجزء الخامس والأخير
________________________________________________________________


0 التعليقات:

إرسال تعليق