الخاتمة: الحلقة2


لقراءة الخاتمة الجزء الأول


إن آلية الإدراك المبنية على "الأنا" المستندة، وبجزء كبير، على أنماط صور عقلية في الدماغ غرست بتأثير الثقافة-الاجتماعية، تستطيع من خلال الدماغ الذي يقوم بمعالجتها عن طريق الأحاسيس المتفاعلة مع المعلومات المقتبسة من الخارج، أن تشكل حافزاً أكبر للخيال المؤسس لبنية "الأنا" الفردية.
لهذا نستطيع القول: إن الثقافة الاجتماعية الدينية تعترض وبشكل مستمر طريق الخيال الفردي، فتقوم بتوجيهه وتقييده وتمنعه من الوصول إلى مرحلة الإبداع في جميع مجالاته العلمية والفكرية وتضيق الخناق على أدواته المستخدمة، وتمنعه من الترحال والسفر في فضاء حر واسع لا تحده أنوات بشرية أو إلهية.
وبالعودة إلى الفرد الذي يميل في اعتقاداته إلى الغيبيات، فإننا نجده، وبفعل إيمانه، يرتكز على أسس ثابتة قاسية تحرمه من اكتفاء غرائزه ومن التصالح مع الذات، وتجعله عاجزاً عن الغوص في الخيال والقدرة على الحلم. وهكذا يفقد الإنسان أحد أهم مفاتيح الإبداع، فالحلم هو المحرض الأساسي لدفعنا إلى السفر الإبداعي عبر الخيال.
ينتج عن حالة القمع المستمر للكيان الفردي استعصاء في القاعدة النفسية، فترفض الإنصياع للتطورات التي تجتاحها، وتقوم برفض جميع ما يختلف عنها، لا بل أكثر من ذلك، تصاب بحالات من التشنج المزمن. وهذا بالطبع ناشئ عن ثقافة جماعية تربى عليها الإنسان لأن الجماعة غير القابلة للحراك تقوم بتجريد الفرد من كل التقنيات النفسية التي تتيح له تلقي المعطيات الخارجية الغريبة عن نموذجه الثقافي، وتحول دون تمكينه من إدخالها إلى كيانه. لهذا نجد أن أفراد هذه الجماعات ذات الثقافة الجامدة يقبلون أن يصبحوا أرقاماً حسابية مجردة من أية خصوصية في كتلتهم الجماعية، فهم يميلون إلى ترجيح كل ما هو متكرر، ويقبلوا أن يكونوا سجناء لمنهج وأسلوب واحد.
تعتمد المجتمعات المتقوقعة حول ثوابت دينية إلى وضع لاصقات محدودة للكلمات والتعابير والجمل... وبهذا تقوم بإلغاء العامل الإحساسي الذي يمكنه أن ينشأ من جراء عملية الإبحار للفرد في ثقافات وتجارب مختلفة عن نموذجه الثقافي. مما يؤدي إلى شلل جزئي في التعاطي مع تعابير ومفاهيم مختلفة ونفي مستمر من قبل الفرد أو الجماعه لكل ما هو جديد أو مختلف عنه.
نجد أن هذه الأسس الثابتة تحصر الأفراد ضمن قيم زائفة منافية لتركيبتهم النفسية، فتشعل في أنفسهم رغبة التميز عن الآخر وذلك تعويضاً عن الضرر النفسي الذي سببته هذه الأسس أو الثقافة من آثار حرمان شديد مارسته ولمدة طويلة على جماعاتها، وذلك من خلال زرع بعض المعايير والأخلاقيات الثابتة التي تستند إلى ثقافات قائمة على "الكبرياء"، و"شرف الانتماء". وهي تلجأ إلى زيادة وتيرة القمع على الأفراد، لتسجنهم تحت عباءتها الضيقة، فينطوي الأفراد تحت لواء ثقافة أحادية الاتجاه في الفكر والأسلوب، لتعتمد ثقافة إلغائية لكل ما هو مختلف عنها.
تكرس هذه المجتمعات عملية التصعيد المستمرة لمشاعر وأحاسيس وكلمات... فتخلق بالمقابل لها شعوراً باضطهاد للكيان وذلك من خلال قمع الرغبات والغرائز. فبدلاً من مساعدة تلك الرغبات والغرائز للظهور والنضوج، فإنها تقوم بتحوير إتجاهها الطبيعي، ما يؤثر سلباً على سلوك الأفراد وتصرفاتهم وعلى سلامتهم النفسية والعقلية والفيزيولوجية.
لقد بيّن لنا العلم الدينامي والمعرفي نتائج تأثير التمثيلات العقلية تحت-الواعية المثيرة لأفكارنا ومشاعرنا، فغالبية العمليات الإدراكية والمعرفية والدوافع هي في الأساس لاشعورية.
أكدت لنا دراسات إكلينيكية آلية تحويل طاقات الأفراد إلى طاقة تصب فقط في مصلحة الجماعة مع إلغاء كامل لتميز الفرد حيث يتم طرح الشحنات الداخلية المتراكمة عن طريق مشاعر عدوانية أو عنف تجاه الآخر المختلف مع تشبث كامل بمنظومة قمعية قائمة على التحكم الكامل للفرد. 
وبما أن الإنسان بشكل عام يسعى نحو الاقتناع بمسيرة حياته المفروضة عليه وذلك من أجل خدمة "مبدأ الاستمرار" في الحياة، نجده يقوم بعملية استسلام جزئية، ليشاطر جماعته في عدوانيته جميع المجتمعات ذات الثقافات المختلفة المتصدرة في مجالات عدة حيث يقوم بتحميلهم مصائبه ومعاناته.
نعود إلى "نظرية المؤامرة" وضرورتها لمعالجة حالة النقص التي يعيشها الفرد في هذه المجتمعات، فنرى انعزال هذه المجتمعات وانغلاقها على ذاتها، فهي لا تتوقف عن الشكوى والمعاناة من شعور دائم بالإضطهاد. وبدلاً من أن تجابه مشاكلها وأوجاعها وتتوقف للحظات أمام المرآة كي ترى بوضوح مآسيها المتجذرة فيها والبحث عن الأسباب والتراكمات التاريخية التي جعلتها سجينة تاريخها وثقافتها وإدراكها المحدود، فاننا نراها تبحث عن أعذار، فتقوم بخلق عداوات والبرهنة على وجود مؤامرات خارجية تريد النيل منها، من أجل استخدام جميع الذرائع كوسيلة تخدير نفسي.
ومن أجل حفاظ هذه المجتمعات على عبودية أفرادها، نراها تقوم بتكريس مفهوم الكمال. فتقوم بتحويل الفرد إلى آلة مبرمجة تكرر وتردد ما تريده مجتمعاتها وهو القضاء على التنوع. فينطوي الفرد وينعزل. وبانطوائه يتقوقع المجتمع على ذاته، وهكذا يضيع الهدف الرئيسي عند الأفراد للوصول إلى الاكتفاء والرفاهية. كما تضيع القدرة على الوصول إلى فكر حر غير مقيد الذي هو أساس التقدم والعطاء الإبداعي، وهو الطريق نحو المعرفة وازدياد الوعي.
 إذن، تكتفي هذه المجتمعات ومعها الأفراد بتجاربها المختزنة في ذاكرتها الطويلة الجمعية، فترفض كل ما هو مختلف بشكل قاطع، مما يؤدي إلى عقم في عملية التعاطي مع الآخر المختلف. وبدلاً من الخوض في طريقة تفكيره ومحاولة فهم الآلية، تسعى هذه المجتمعات إلى فرض حججها ومبرراتها وبالتالي فرض إدراكها على الآخر من خلال مبدأي الخير والشر المطلقين ومفهومها الجامد للخطأ والصواب. وبما أن هذه المجتمعات لا تملك خططاً إستراتيجية قائمة على الإعداد لفترات طويلة، فإن نظرتها لكل ما هو خارج عنها تعكس درجة تأثير التفاعلات النفسية التي تمر بها وعدم قدرتها على التخلص من المشاعر الحسية التي تقيدها وتسيرها. وهذا يؤدي إلى نشوء عجز كامل للقيام بأي تغيير في مفهوم ونظرة الآخر المختلف، لهذا ينتهي بها المطاف للتمييز فيما بينها وبين المجتمعات المختلفة عنها لينتهي بها الأمر إلى التمييز بين أفرادها لأنها تتبع آلية واحدة متكررة.
فمن الناحية النفسية، وبسبب الانتكاسات العديدة، احتفظت المجتمعات المتقوقعة على موروثها الثقافي الثابت، كما هو الحال في المجتمعات (العربية)(*100) بشعور الهزيمة المتكررة. وحسب دراسات عديدة، فقد أوضح لنا علم النفس العصبي أن ازدياد التعرض المتكرر لحالة معينة، يجعلها تتحول إلى محفز ذي أثر زمني طويل. ليرافق هذا المحفز شحنات عاطفية تساهم في تغيير الواقع والإحساس بالهزيمة، فيتحول هذا الشعور إلى نصر ضائع أو وهمي. وهذا ما يحصل مع هذه المجتمعات، فنراها في حالة تأهب دائم ضد كل من يختلف عنها. وينتج عن هذا الشعور إحساس بالإنطواء. وهنا تشتد على هذه المجتمعات وتيرة التأهب فتخيط لذاتها ثوبا دفيناً من الخوف وتعلن حرباً على معتقدات الآخرين. ومع ازدياد شعور الخوف، تبدأ هذه المجتمعات بقمع ذاتها، وتحطيم أفرادها أولاً، لينتهي بها الأمر إلى تكرار مآسيها المرسخة في ذاكرتها، ولتتبنى بعدها موقف الجندي البسيط الذي لا يرى شيئا من ساحة المعركة سوى خندقه الخاص. وبما أنها تفتقد إلى كوادر بناءة قادرة على التكيف مع التحولات التي تمر بها، تنعدم لديها إستراتيجيات الخروج من محنة التخلف، فتنتقل إلى حالة من الهيجان الكامل المشحون بمشاعر الخوف والإرتباك الشديد.
في مثل هذه الحالة، لا يبقى لهذه المجتمعات إلا أن تفتخر بديانتها المحلية، لتسن منها قوانينها وأسسها، وتتبع نظاماً قديماً لا يصلح أن يتماشى مع المتغيرات الجذرية التي طرأت على المجتمعات بكاملها، وخوفاً من فقدان ما تملكه وهو الفرد، نجدها تضيق الخناق عليه، فتتآكل أعمدة البناء الإبداعي الفردي. وها هي تشبك نفسها في دائرة ضيقة، وترفض النظر إلى كل ما هو متحرك خارج دائرتها.
تحارب هذه المجتمعات على جبهتين، جبهة داخلية، لشل حركة أي تمرد أو تغيير من قبل أفرادها، وجبهة خارجية لإثبات ذاتها ومعتقداتها أمام الآخرين. لكن نظرتها المحدودة والمتشائمة تجعلها تبتعد عن حالة السلم والإستقرار الداخلي، لتدخل في حالة قمع ذاتي.

هذه العلاقة المتبادلة ما بين الجماعة والفرد ترضخ لآلية إكتساب جزئي وشرطي فيما بينهما. فبينما تتبنى الجماعة معتقدات أفرادها (من قبيل دين الدولة الرسمي) يتنازل الفرد عن (فرديته وأفكاره الخاصة) لصالح الجماعة، لينتج عنها إلغاء للقيمة الفردية لصالح الجماعة، ويصبح الفرد على استعداد كامل للتضحية بنفسه من أجل الجماعة. وبما أن هذه المجتمعات تستمد قيمها وأحكامها وقضائها من الدين، يصبح الدين هو الهدف السامي الوحيد لكل فرد يرغب بإظهار وإثبات "أناه" للإعتراف به من قبل جماعته، فيقوم بتبني مبدأ استبداد الجماعة ومحاربة الأفراد الذين يحاولون التغيير لصالح الفرد والإبداع والحياة... يتبع 

لقراءة الخاتمة الجزء الثالث
لقراءة الخاتمة الجزء الرابع
لقراءة الخاتمة الجزء الخامس والأخير
___________________________________________________________________
*100- اضطررت لاضفاء صفة العروبة على هده المجتمعات للتعريف فقط، مع أني شخصياً لا أميل إلى تعريفها بالعربية وذلك لتنوع القوميات الموجودة فيها والتي لا يمكننا الغاءها أو اجبارها على التبعية للغير، متذرعين بحجج "حقوق الأكثرية"، ولهذا أجد أن علينا تثبيت حق الفرد كفرد من دون التطرق إلى انتمائه القومي أو العقائدي الديني أو اللاديني.