الخاتمة: الحلقة4



لقراءة الخاتمة الجزء الأول
لقراءة الخاتمة الجزء الثاني
لقراءة الخاتمة الجزء الثالث



ولكن، وسط هذا البحث اللامتناهي عن الحرية، تضيع المفاهيم والقيم المنغلقة ضمن كلمات براقة ترعرعنا عليها، لتقف حاجزاً بيننا وبين أفكار ومناهج وقوانين جديدة يمكننا لمسها، لتساعدنا في كسر بعض الثوابت والحواجز التي تعيق تقدم البشرية. فنتوه بعدها في أسئلة وجودية وفلسفية، ونتساءل من جديد عن معنى الحياة والفائدة منها. ليأتي لكل منا جواباً مختلفاً عن الآخر. ويعود ذلك إلى التجارب والخبرات الفردية المتداخلة مع تفاوت الوعي والإدراك. وأجد، من زاوية خاصة، أننا لم نولد لكي لنتوقف أو نتشبث بثوابت قديمة بل لنتمايل ونتراقص مع التغيرات الحياتية.
أعتقد أن رحلة البشرية هي رحلة واحدة تصب في هدف الحرية، بمعناها المتغير التابع لجملة قوانين خارجية متحولة. ولا يمكن العثور على هذه الحرية دون التحرر من الرغبات الأنوية التي تكبلنا، كي نستطيع التعامل مع المتغيرات والأفكار الجديدة بتناغم منسجم، ولنصل إلى مفهوم جديد لحرية نسبية، يستطيع الإنفلات من الانتماءات الجغرافية واللغوية والجماعية والنوعية. فعندما نتمكن من لمس الذات النائم في أعماقنا بهدف ملامسة الطبيعة والتوحد مع كل عنصر حياتي، لتكون بذلك رحلتنا المعرفية حصيلة الذات الكامنة في كل الكائنات وفي كل مكان وزمان... 
ربما هي رحلة في الحياة والموت معاً كي نتعلم رسم خطوط الموت في خيالنا كي نصل إلى إبداع حياتي، وبذلك نستطيع معانقة الحياة والموت معاً.
لا شك أن هذا المفهوم للحياة يمهد لنا الطريق للإنعتاق من كل ما يثقل حركتنا وفكرنا، فيضعنا في مسار متجدد لمفاهيم ومعايير تفوق جميع المعايير الحياتية التي تربينا عليها. ولهذا علينا البحث الدائم عن نماذج ثقافية جديدة ومحاولة التقمص في كل الأنواع الحية الموجودة في هذه الطبيعة كي نتمكن من رمي الموروث البدائي الذي يعاني منه الإنسان أينما وجد.
لقد علمنا التاريخ أن الإنسان جدير بتغيير المفاهيم، وأن الحرية طريق طويل يبدأ أولاً بالفكر والقياس من خلاله. فالإنسان المستقل هو الذي يحكم على الأمور والأشياء من خلال دراسة مجردة تبدأ من ذاته أولاً وتمتد إلى اللانهاية... لتصبح القيم الثابتة عبارة عن إجحاف في حق كل من ناضل في سبيل الإنعتاق. ومن الإجحاف بحق أنفسنا أن نأسرها ونسجنها ضمن إطار ضيق يحصر الإنسان داخل دائرة عرقية وقومية وأفكار لا تصب إلا في المصلحة الضيقة للجماعة، مناقضة بذلك الدافع "الهايبوتالاميك" الباحث عن اللذة عند الفرد. ففي حال استحالة تحقيق السلوك المكافئ للفرد فإن كل ما ينشأ عنه هو قلق دفين، ليلجأ الدافع إلى الهروب من خلال العدوانية تجاهه وتجاه الآخر. لا ننسى أن سلوك العنف هو الوسيلة الأسهل لحل العراك ما بين الدافع "الهايبوتالاميك" والممنوعات الناشئة عن الثقافة- الاجتماعية التلقينية للفرد.
من هنا، أجد أن رحلتنا القصيرة في هذه الحياة تصب، قبل كل شيء، في سعي الإنسان وراء التصالح مع غرائزه وذاته بهدف إيجاد توازن ما بين الذات الفردي والذات الجمعي من خلال ازدياد وعيه والذي سيقودنا حتماً إلى إيجاد صيغ ووعي جديد. وفي البدء أعتقد أن علينا التحرر من كل المفردات والنعوت والصيغ، الجمالية وغير الجمالية، التي تسجن الإنسان ضمن وعاء مغلق، فتعرقل بذلك مساره المتغير وتغرقه في سراديب "أناه" ومصالحه المحدودة الآتية من الثقافة- الاجتماعية.
فإذا تمكنّا من الوصول إلى وعي أكبر وتبني الحيادية تجاه الأمور الخارجية المحيطة بنا ووضع نظرتنا "الأنوية" جانباً والمستمدة من خارج جمعي، نستطيع بذلك معانقة الحياة والحرية معاً والتي تبدأ مع التغلغل في الذات للمس الذوات الأخرى.
لا شك أن الحياة لا تقتصر على مفاهيم ضيقة ومحصورة في وعاء مغلق ولا تقتصر أيضاً على المعايير الدينية والإلهية، بل تمتد إلى أعماق الطبيعة والتي تبدأ أولاً بالغوص في رحلة عري ذاتي لكشف الستار عن ما نجهله. لكن وقبل الإنطلاق في أية رحلة حياتية، ربما يتوجب علينا أن نحدد أدوات التسلح لمجابهة كل من يريد عرقلة هذا المسار. فالاستقلالية أو الحرية، كما يطيب للبعض تسميتها، أجدها وفي مرحلتها الأولى تبدأ بمبدأ الالتزام لما نختاره حتى ولو كان لاختياراتنا عواقب غير مرغوبة والدفاع عن هذا المبدأ، وخصوصاً في مراحله الأولى، قبل أن تكون رحلة إنفلات فوضوية. فالحرية تبدأ بذلك الوعي للحروف والكلمات والإشارات الظاهرة والكامنة، الحاضرة والغائبة، فهي حصيلة وعي للماضي والحاضر والمتغيرات.. لرسم بعض المعالم، وللوصول إلى مفهومها الطبيعي والإحساس بوقودها، والتصالح ما بين المتضادات لإيجاد جسور وأنفاق تصل بين المفهوم الأعمق للحرية وبين الحرية بمفهومها الضيق.
لهذا أجد أن علينا إعادة تحديد مفردة الحرية وتنظيم مراحلها وتقسيمها إلى عدة فترات، وربطها بعملية الوعي الجمعية والفردية من دون الوقوع في أفخاخها واستخداماتها من قبل أولئك الذين لا يرون إلا حقيقة واحدة مصبوغة بلون واحد والذين لا يتورعون عن استخدام جميع الوسائل، فيبيحون لأنفسهم ما لا يبيحونه للغير ويحاربون الآخر المختلف من خلال مفرداته ومصطلحاته، فنجدهم يمارسون شتى أنواع القمع والاستبداد والحد من حرية التعبير تحت بند "إحترام العقيدة واحترام الحرية الشخصية". فلا يلتزمون بما يطالبون الغير به، وذلك لأنهم أصحاب الحقيقة الذين أنعم الله عليهم (وحدهم) بنور المعرفة والفكر. فتختلف المعاني بالنسبة إليهم، فلا يجدون في أفعالهم القمعية تجاه الآخر فعلاً مستبداً، بل يعتبرونه بمثابة تصحيح مسار وتأديب لصالح حقيقتهم التي لا تعرف إلا وجهاً واحداً غير قابل للهدم والبناء.
لهذا، أعتقد أن علينا التوقف في هذه المرحلة الحرجة لاتخاذ مواقف صريحة وشجاعة خالية من النفاق والمصالح من خلال وضع حدود تطبق على الجميع والإتفاق على حرية التعبير بشكلها الكامل من دون الإلتفاف عليها.
أعتقد أن الوصول إلى الاستقلالية يتطلب ثمناً، وهذا الثمن يبدأ في سد الطريق على كل من يريد أن يكبل حركة الفرد والحد من حرية تعبيره، من خلال الإعتراض على كل من قَبِل لنفسه بالبرمجة متشبثاً بذلك بكل ما لقن له من معلومات، رافضاً مبدأ البحث والتشكيك، قابلاً حالة القطيع، ورضي أن يكون نسخة رقمية تعيد وتكرر كل ما تم غرسه في دماغه ليعبر عن حالة موحدة لا تلائم مسار الطبيعة المتنوعة والمتغيرة.
إن عملية التوحيد للحقيقة والمعرفة والوعي وتكريس مفهوم ثابت للكمال والفضيلة، كما تفرضها ثقافة القطيع، ما هي إلا انعكاس لقانون آلي خال من الاكتشاف والتحول معاكساً بذلك مسار الطبيعة.
وإذا أتينا إلى معنى "الحقيقة" عند أولئك الذين يقدسون ثوابتهم، نراها خاضعة لجملة أخلاقيات ثابتة تعكس معايير الإنسان في فترة زمنية معينة نتجت عن إسقاطات لتفاعلاته النفسية وإدراكه في تلك الفترة لكل ما هو خارج عنه، لتخدم بذلك مبدأ "القطيع" الاجتماعي الخالية من أية استقلالية ذاتية. ولترتبط الحقيقة بمفاهيم تصعيدية. فكلما اشتدت ثقافة الفضيلة عند المجتمع، تشتد معها وتيرة عدم الانسجام الذاتي وتزداد الفروقات بين الأفراد، كما تزداد درجة التمييز والإنعزال الفئوي والفردي.
مما لا شك فيه أننا جميعاً كبشر نعاني من مشاعر متناقضة فيما بينها وذلك لهول الفجوة ما بين الثقافة الأخلاقية التي تلقيناها والمشاعر الطبيعية للإنسان، ولا شك أيضاً أن الإنسان القادر على مواجهتها والقادر على البحث في تركيبته الذاتية هو إنسان أكثر قدرة على الانسجام مع جميع الذوات المختلفة الحية.

هذه القدرة الذاتية في مواجهة الداخل الإنساني تقودنا نحو صيغ حضارية جديدة، لإعادة صياغتها دون اللجوء إلى مبدأ التصعيد والذي اتخذه الإنسان لإعلاء سقف فكره. ففي كل مرحلة، تختلف الأدوات والمعايير لتتجانس مع الزمن ومع مستوى وعي الأفراد. فإذا نظرنا، في وقتنا الحالي وبشكل غير متعمق، إلى قيم الحياة السابقة وأقمنا عملية مقارنة بينها وبين القيم الحداثوية، نراهما متعارضتين مع بعضهما. لكن عند اعتمادنا الغوص في أعماق القيم القديمة التي ولدت من وقود حياتها آنذاك، نجدها عبارة عن طابق في مدرج الوعي الإنساني... يتبع 

لقراءة الخاتمة الجزء الخامس والأخير
______________________________________________________________

1 التعليقات:

غير معرف يقول... [Reply]

• الأنا كما وصفها فرويد هي شخصية المرء في أكثر حالاتها اعتدالاً بين الهو والأنا العليا، حيث تقبل بعض التصرفات من هذا وذاك، وتربطها بقيم المجتمع وقواعده، حيث من الممكن للأنا ان تقوم باشباع بعض الغرائز التي تطلبها الهو ولكن في صورة متحضرة يتقبلها المجتمع ولا ترفضها الأنا العليا. • مثال: عندما يشعر شخص بالجوع، فان ما تفرضه عليه غريزة البقاء (الهو) هو أن يأكل حتى لو كان الطعام نيئاً أو برياً، بينما ترفض قيم المجتمع والأخلاق (الأنا العليا) مثل هذا التصرف، بينما تقبل الأنا اشباع تلك الحاجة ولكن بطريقة متحضرة فيكون الأكل نظيفاً ومطهواً ومعد للاستهلاك الآدمي ولا يؤثر على صحة الفرد أو يؤذي المتعاملين مع من يشبع تلك الحاجة. • يعمل الأنا كوسيط بين الهو والعالم الخارجي فيتحكم في إشباع مطالب الهو وفقا للواقع والظروف الاجتماعية. • وهو يعمل وفق مبدأ الواقع. • ويمثل الأنا الإدراك والتفكير والحكمة والملاءمة العقلية. • ويشرف الأنا على النشاط الإرادي للفرد. • ويعتبر الأنا مركز الشعور إلا أن كثيرا من عملياته توجد في ما قبل الشعور ،وتظهر للشعور إذا اقتضى التفكير ذلك. • ويوازن الأنا بين رغبات الهو والمعارضة من الأنا الأعلى والعالم الخارجي، وإذا فشل في ذلك أصابه القلق ولجأ إلى تخفيفه عن طريق الحيل الدفاعية.

إرسال تعليق