الخاتمة: الحلقة5



لقراءة الخاتمة الجزء الأول
لقراءة الخاتمة الجزء الثاني
لقراءة الخاتمة الجزء الثالث
لقراءة الخاتمة الجزء الرابع

تختلف المعايير والمفاهيم للأخلاقيات التي تعبر، بشكل أو بآخر، عن التزامات فرضت على الأفراد مرتكزة على أدوات قمع جماعية ومن ثم ذاتية، والمتضادة للمعنى الجوهري للحرية التي تعني، غياب آلة قمع الذات. فإذا أتينا إلى مفهومها الفيزيائي، نجده يعبر عن ممارسة جميع القدرات والكفاءات لأي نظام حي.
نحاول جاهدين إيجاد معان لمسيرة حياتنا القصيرة كي نتسلح بالقوة وإرادة الاستمرار، ونتمكن بذلك إجتياز الهضبات الوعرة المسكونة في داخلنا النفسي، فيتداخل البناء الأنوي مع الذات الواعي واللاواعي الفردي الممزوج بالرموز الجمعية، ليقوم بترجمة كاملة لكل المخزون الذاتي، فتتحول الذات إلى أداة ووسيلة لفهم الذوات الأخرى ومحركاً أساسياً للتوغل في أعماق الحياة بكل ما تحتويه من عناصر.
إن الأخلاقيات والإلزامات الجماعية التي نعاني من عواقبها، مبنية على أساس الألم الناتج عن عدم "الاكتفاء". وهي مغروسة في جهازنا العقلي الجامع لكل المشاعر والأحاسيس المتضادة والمورثات الجينية، البارزة أو المضمرة. وحسب التعاليم المكتسبة والممنوعات الاجتماعية، فإنها تتغلغل في الفرد تدريجياً من خلال الأهل ومن ثم المؤسسات التربوية والاجتماعية التي تفرض عليه مشروعاً ثقافياً لا يمكنه تجاوزه. وهي تفعل ذلك من خلال ترسيخ أفكار شتى كالقضاء والعقاب والمكافأة، لتشكل الأرضية الأساسية للتفاعلات النفسية وبناء "الأنا".
إن هذه الأخلاقيات والقيم ترتديان سترة مختلفة تناسب عصرها، فتمران بمراحل مختلفة لتتناسبا مع التطور الواعي للجماعة، مما يساهم في ازدياد الضغوط النفسية عند الأفراد، فتتصارع غريزة اكتفاء الذات مع الصور العقلية المشحونة بمشاعر الخوف والرعب القابعة في لاوعي الإنسان والآتية نتيجة الثقافة الاجتماعية. 
ينتج عن هذه المعركة الداخلية شعور بالذنب. فكلما أراد الفرد تحقيق اكتفاءاته تنتابه موجة رادعة تنبثق من صوره الداخلية المتراكمة منذ صغره، لتجتاحه كلياً، فيقف عاجزاً عن الفهم ويشعر بالشلل تجاهها. وهكذا يصبح الأفراد سجناء إلزامات جماعية فرضت عليهم، لتلعب دوراً مهماً في تأطيرهم ضمن قوانين وعادات وسلوكيات تبلورت مع الوقت وتحولت من تابوهات إلى ممنوعات دينية، رادعةً بذلك أية محاولة تمرد، وضامنة بذلك كيان الجماعة الهرمي.
ولكن ثمة ما يحسن الإنتباه اليه لدى المجتمعات "المتحررة" أيضاً.
لا شك أن مبدأ "العقاب والثواب" ما زال جارياً، إلى يومنا هذا، حتى في تلك المجتمعات التي تحقق لأفرادها إستقلالية نسبية وحرية في التفكير. وذلك لأن مبدأ "الهيمنة" ما زال مستمراً فيها من خلال طرق مختلفة.
ونستطيع القول: إن مبدأ الهيمنة على الأفراد أخذ تدرجات وانحدارات متنوعة اختلفت في تعاطيها مع الأفراد بشكل يتناسب مع درجة المعرفة ودرجة قبول الفرد للإلزامات الجماعية، حيث يتم تسجيل الأفعال تحت بندي الثواب أو العقاب في شريط الذاكرة، كما تسجل الممنوعات الآتية من الأهل ومن ثم الثقافة الاجتماعية العامة. وتعود هذه الممنوعات لتشكل كل ما هو مكتسب من الخارج كتمثيلات عقلية تساهم تدريجياً في بناء هيكلة عصبية داخلية مشفرة، ولتقوم بتحديد النموذج الثقافي- الاجتماعي، وبالتالي تحديد الإدراك المرتكز على كمية من الأحكام والقيم المكتسبة من سلسلة معلومات ممزوجة بمشاعر وأحاسيس مختزنة في الشريط الذاكري.
 ولدى النظر إلى المجتمعات التي تجاوزت مبدأ "الإدخار" الاقتصادي لتتمتع بغزارة الإنتاج، نجد أن هذه المجتمعات تتحول إلى مجتمعات استهلاكية، ليطرأ على مبدأ الهيمنة الجماعية التي تتم ممارستها على الأفراد، تحوّل في الأسس وفي وسائل كيفية تطبيقها على الأفراد، ليتم ذلك من خلال أسرهم واستخدامهم كآلة إنتاجية تتم مكافأتهم، لتتم محاصرتهم من خلال قدرتهم على الإستهلاك.
لا شك أن أفراد هذه المجتمعات يتمتعون بجزء من حريات ضيقة، كحرية التعبير والفكر والسلوك الفردي الخاضع في ذات الوقت إلى الثقافة المشروطة الجماعية. والجماعة هناك تمنح الفرد ما حرمته منه منذ قرون عديدة وتعطيه الحق باكتفاء رغباته الغريزية، وممارسة قناعاته الفردية بشكل تعبيري، ولكن من دون أن يكون لحرية التعبير أي ثقل أو تغيير ملموس على أرض الواقع. وفي ذات الوقت يتم تطويع الفرد من خلال سجنه داخل قوقعة استهلاكية.
يدخل الفرد وبملء إرادته دائرة ضيقة معتقداً في ذات الوقت أنه سيد نفسه، ليتخلى عن فرص المشاركة بالقرارات التي تمس الإطار الأوسع للحياة المرتبطة بشكل وطيد بالمعرفة المتجاوزة للقيم المكتسبة من الثقافة الاجتماعية والمتدفقة من منابعه الذاتية المعرفية. وهكذا ينضم الفرد إلى أعداد هائلة تعمل وتعيش من أجل تحقيق أهداف تصب في مبدأ التمييز الفئوي أو العرقي، راضياً ببعض المكاسب الضئيلة الأنوية. 
ومما لا شك فيه أن القيم المترسخة كتمثيلات عقلية في دماغ الفرد والتي سجلت في ذاكرة الفرد تبدأ منذ الولادة لتمتد على مدى سنوات طويلة، تهدف إلى سجن العقل وإخضاعه لقيم مشروطة آتية من الخارج، فهي ذاتها تخلق لدى الفرد تلقائيات سلوكية وأهدافاً محددة وتقوم بتسيير حياته ضمن منهج مشروط. وبذلك يتخلى الإنسان عن إمكانية تطوير أفكاره وتحديد مشاريع فكرية فردية تستطيع الهروب من إطارها الجماعي خادمة بذلك نظام الهيمنة المتدرج على شكل هرمي. وبذلك يتخلى الفرد العادي عن حرية القرار الذاتي. 
وبما أن حرية القرار مرتبطة بالمعرفة، يعني ذلك تخلي الإنسان البسيط عن البحث الدائم ليصب اهتمامه باكتفاء حاجاته البيولوجية والأنوية الضيقة والتي يستطيع تحقيقها من خلال عملية الاستهلاك والمنافسة على قدرة الشراء للحصول على مكانة اجتماعية وأجزاء من حرية ضيقة تخلو من العمق الفكري، الأمر الذي ينشأ عنه اتساع رقعة الحرية الفردية التي لا تتجاوز "الأنا" الصغير لتكتسب نفوذاً معيناً متبايناً بين مجتمع وآخر، وتصبح الكتلة تابعة لأفراد نافذين ونخبويين.
تقترن حرية الفعل بمركز العمل في الكيان الجماعي. فكلما ارتفع الفرد في مرتبته الجماعية، حصل على مساحة أكبر من حرية الحركة والقرار "الأنوي"، وهذا لا يتم إلا من خلال المكافأة المعتمدة من الكيان الجماعي، ليصبح الفرد أسيراً لمفاهيم اجتماعية، وذلك بالرغم من شعوره بأجزاء معينة من الحرية. ففي المجتمعات التي تمنح الفرد أجزاء من حريته كالتعبير مثلاً، نراها لا تقوم بترويج المعلومات الفردية الخارجة عن نظامها الثقافي- الاجتماعي، فتبقى المعلومة ضائعة غير قادرة على إيجاد نظام حسي يمكنه تلقيها وتحويلها إلى صورة عقلية، ليتم تسجيلها في الذاكرة وإضافتها كتجربة إضافية.
لا أعني من كلامي أن هذه المجتمعات تتحكم بشكل كامل بأفرادها وأنها تتساوى مع المجتمعات المستبدة اجتماعياً وثقافياً ودينياً وسياسياً، ولا أزعم أيضاً أن الأوروبيين أو الغربيين بشكل عام قد استطاعوا الوصول إلى مفاهيم وقيم إنسانية، فالفرد في هذه المجتمعات يتمتع وبشكل واضح ومن غير خجل بالتعبير عن أفكاره وكيانه. وبالرغم من كل الآفات التي يعاني منها الغرب إلا أنه اليوم يمثل حصيلة التراكم التاريخي والمعرفي المنتقل من بلد الى آخر، وحصيلة حضارات ولدت منذ وجدت البشرية.
جميع المجتمعات تعاني من الموروث البدائي. فالإنسان واحد أينما كان. ذلك إن ما يميز إنساناً عن آخر هو فكره الحر، وما يميز مجتمعاً عن آخر هو قانونه الذي يتكفل بحماية أفراده مهما تعارضت أفكارهم مع أسس الجماعة.
لم ترتق الكتلة الجماعية الغربية في مفاهيمها ومعاييرها الإنسانية بعد. وما زالت الشوفينية سلاحاً في أيدي جميع البسطاء الذين لا يملكون شيئاً مميزاً، فيسعون للإفتخار بأوطانهم وقوانينهم ومفكريهم. لهذا أجد أننا بحاجة ماسة إلى صحوة فكرية وإلى محاربة الشوفينية بكل أنواعها وأثوابها من خلال تقويم الإعلام والكف عن تدجين الفرد ضمن دائرة استهلاكية تجرد الفرد من آليات بحث دفينة تحثه على توسيع إدراكه للتعرف على نماذج بشرية تشمل جميع الكائنات الحية للوصول إلى الانسجام الكامل مع المحيط الخارجي بكل ما يحتويه.

الحياة والحرية جزءآن لا يتجزءآن. فمهومهما المتغير والمرتبط ببعضه يقود الفرد نحو استرجاع قيمته لتتكرر ولادته في كل مرحلة يكتسب فيها وعيا وإدراكا أوسع. ولهذا يتوجب تحرير الإنسان من سجن الفضيلة. انتهى
________________________________________________________________

0 التعليقات:

إرسال تعليق