القسم الثالث الحلقة15: العقد المستقلة




يرى يونغ أن القوانين الأخلاقية أو الأفكار لا يمكنها أن تؤثر على الإنسان إلا في ظروف معينة تتناسب مع أرضيته النفسية، ليكون الفرد على إستعداد لاستقبالها وتقبلها. فهذه القوانين تتسلل إلى الأعماق البشرية من خلال الوسيط الإحساسي، لتتمكن الفكرة أو الشكل الممثل لقانون أخلاقي ما أن يتحول إلى "عقدة مستقلة". لكن وبحصول العكس، أي في حال عدم تعرض الفكرة إلى أي محفز يمكنه المساهمة في التحول وخلوها (الفكرة) من أي إحساس يمكن للفرد لمسه، تبقى هذه الفكرة سجينة لكلمات أو عبارات غير قادرة على التأثير. بينما نجدها وعند إكتسابها للعقدة المستقلة تتحول الفكرة أو القانون الأخلاقي من كلمات وعبارات إلى مفهوم حسي ذي تأثير فاعل على حياة الأفراد.
فلو تعمقنا أكثر في التعابير والأمثال المرتكزة على تجارب فردية ومن ثم جماعية تراكمت على مدى العصور، لوجدنا انها تُختزل في كلمات وأمثال ونصوص قدمت لنا كحصيلة جهود مكثفة غير خاضعة للتغيير وغير مؤهلة للتأقلم مع المستجدات الخارجية المحيطية المتغيرة. فتتخذ بذلك مساراً ثابتاً، لتصبح بذلك عائقاً أساسياً لعملية التطور، فتتحول إلى حقائق ثابتة. وعند إكتساب الفكرة أو المفهوم لقوة مستقلة خارجية نجدها تتحول إلى حواجز تقف في وجه وعي الأنا الإنساني. فمع كل ما يمكن أن تحمله هذه العبارات من حكمة إلا أنها تقع في فخ الحقيقة الثابتة لتقمصها إياها، وتبدأ بمزاولة عملها في برمجة عقل الإنسان فيصبح عاجزاً عن التمرد عليها. لهذا نجد أن التشبث بحقائق معينة والناتجة من جراء عملية الإكتساب المشروط الخاضعة لثقافة مكررة نشأت في زمن معين وتوقفت عنده، لتعيق مسار الحركة والتقدم نحو الأمام.
نلاحظ اهتمام عدد لا بأس به من الفلاسفة بالداخل النفسي وأثره على الإدراك، في زمنٍ لم يكن علم النفس قد أخذ حيزاً أو أسلوباً منهجياً كما هو حاله اليوم، ليستنتج نيتشه أن قدرة الفكرة في الظهور على السطح لا تتم إلا عند إختمارها في لاوعي الإنسان، لتقوم بفرض ذاتها على الوعي.
ونستطيع اليوم تكملة ما قاله نيتشه، لنقول إن امتصاص أية فكرة خارجية تخضع للتفاعلات النفسية الفردية، وعند اختمارها يقوم اللاوعي بطرح الفكرة مجددأً إلى الوعي في حال توفر ظرف خارجي يسمح لها بالتظاهر والإعلان عن نفسها. لهذا نجد أن للكلمة تأثيراً في الذات الفردية عندما تتمكن من التغلغل في الأعماق من خلال الوسيط الإحساسي، لتكتسب الكلمة شكلاً أو تمثيلاً أعلى. ومن أجل التعبير عن ذاتها عليها إمتلاك محفز قوي يدفعها لتحقيق عملية الطرح والتنفيس.
دعونا ننظر إلى صورة الإله المعبر بشكل ما عن مجموعة من إرادات وخيارات وحاجات نفسية ما انفك الإنسان بالبحث عنها في داخله، والتي تعكس في جزء منها فشل محاولات الإنسان المتعددة الهادفة للسيطرة على الظواهر الطبيعية والتي نتج عنها شعور بالتعب والإنهاك والإستسلام. من هنا بدأت عملية طرح هذه الرغبات والتفاعلات الداخلية إلى الخارج حيث برع الإنسان برسم الصور المطروحة عن طريق خيال واسع وخصب آملاً بالتحليق بعيداً باحثاً عن قوة ما وطامحاً باقتنائها، إلا أنه وقع في فخ أخطائه الإدراكية والهاربة من أي واقع خارجي، فقام بنسج علاقة ما بين هذه الأخطاء وبين الواقع الخارجي ليعطيهما بعداً مسبباً، وبذلك قام بإنشاء علاقة فيما بينهما ليبحث فيما بعد عن براهين وهمية لا تمت للواقع بصلة.
هذه الحاجة ولدت في البدء من رغبات عديدة منها رغبة التمييز والسيطرة على الآخر لاقتناء ما يملك، فنجدها نابعة عن حاجة أنوية مركزية. 
وسأعيد هنا ما قاله هنري لابوريت المتعلق ببحث الإنسان عن اللذة والسعادة والتي جعلته يصطدم بالآخر من منظور اجتماعي مما أدى إلى نشوء التسلسل الهرمي والمؤسس لمبدأ الهيمنة عند الإنسان وجميع أنواع الحيوانات على حدٍ سواء. فما يميز النوع الإنساني عن الأنواع الأخرى الحيوانية هي تلك النظرة الأنوية المقترنة بنظام اجتماعي هادف لخلق آليات فعل وتفكير عند الفرد. فالمجتمع يؤجج مجموعة قيم وأخلاقيات معينة عند الأفراد لصالح البنية الهرمية للمجتمع، لتنشأ عن هذه القيم أحياناً حالات وهمية لأخلاقيات مثالية تفتش عن الكمال والفضيلة، فتسجن نفسها ضمن أطروحات متمثلة بعقائد غير عقلانية تشبه إلى حد بعيد حالات الهلوسة والأوهام التي تنتاب بعض المصابين والتي تعبر عن حالة تعويض لتفاعلات وحاجات نفسية، فنلاحظ قيام هؤلاء ببناء جدار وحاجز في داخلهم يصعب إقتلاعه أو بتره، في بعض الحالات المستعصية، لتتفاقم الأعراض المرضية النفسية، وذلك لإصرار الفرد على رؤية محددة.
ولا بد من التنويه إلى أن وجود الأفراد في ظل مجتمع أحادي الثقافة لا يساعد أبداً على كسر الحاجز النفسي لديهم.
تنشأ التمثيلات العقلية عن أبنية نفسية وهمية تلائم المعتقدات المستمدة من الثقافة المحيطة، فنراها تشبه كثيراً حالات المصابين بشرخ دماغي، وكما أوضحت بعض التجارب التي قام بها الباحثون على بعض المرضى النفسيين الذين بينوا لنا إنسلاخ هؤلاء عن واقعهم الخارجي فهم يعيشون داخل واقع نفسي خاص بهم. 
وبنظرة سريعة على أصحاب الحقيقة المطلقة والجماعات التي تعزي نفسها على أن إلهها قد خصها تحديداً واختارها كي تغرق في سباتها بجانبه. نجد تشابهاً كبيراً بينهما، فكلاهما تاها في غياهب الأوهام والظلام.
نعلم أن أسس القارئ في المجتمعات الدينية وبالأخص الابراهيمية مرتكزة على أسس ثابتة، ويعود ذلك، إلى التعاليم الدينية المزروعة في أدمغة الفرد منذ نعومة أظفاره. هذه الأسس الآلية تحرم الفرد من غرائزه ومن التغلغل في نفسه، لتحصره ضمن قيم زائفة منافية لتركيبته النفسية، إلا انها تشعل في نفسه رغبة التميز عن الآخر وذلك تعويضاً لما حرمته منه الأفراد والجماعات المتبنية لرؤى ومفاهيم ومعتقدات إكتست بغطاء الفضيلة والأخلاق العليا.
 ينشأ عن هذا التعميم شلل جزئي في التعاطي مع تعابير ومفاهيم جديدة، ليصبح الفرد عاجزاً عن الإبحار في فكره والتغريد بعيداً عن كل القيم الثابتة المغروسة في مخيلته، لهذا نلاحظ أن نفي الفرد لكل ما لا يعرفه هو أمر ناتج عن خلو هذه الأسس من مبدأ النقد والتشكيك، مما يجعل منه فرداً متشبثاً بآرائه، رافضاً لكل جديد، خاضعاً لقوانين الجماعة والإله وتائهاً في سراديبه المظلمة، ليبني في داخله أبواباً واهية حديدية يصعب عليه فتحها.
هذه الأبواب الوهمية المشيدة في سراديب العقل، نجدها ذات منشأ نفسي، فمن أهم خصائصها، استعداد هذه الأوهام للتحول إلى حقائق ثابتة تسكن حالاتها وتستولي على فكر أفرادها. وهذا ما نراه في حالة التشبث الهذياني للأفراد والجماعات المؤمنة بحقيقة وواقع وإدراك واحد. فلا حقيقة لديهم إلا حقيقتهم ولا إدراك للخارج إلا من خلال ذاتهم. يمتلئ هذا الإيمان بالمعتقدات وبأجوبة نبعت من التفاعلات النفسية، والمشحونة في ذات الوقت بأوهام مكثفة، لتساهم في عملية تضخيم الإله وتزداد الرقعة والمساحة بين المؤمنين وإلههم، ليحتل المكان الأكبر في حياتهم ويصبحوا عرضة لكيانه الخيالي وأداة في أيدي رجاله.
اعتبر فيلهلم ريتش أن الديانات لم تنشأ كسبب مرضي بل كانت أعراضاً لمرض عانى منه الإنسان. فعملية الإدراك للأمور تتم من خلال الأحاسيس التي تساهم في عملية الغربلة لكل ما هو خارجي، لتقود عملية الإدراك وطريقة الرؤية، فتحدد للإنسان ردات الفعل القائمة على الأحكام المكتسبة. لهذا نجد اختلافاً كبيراً في الرؤية والإدراك بين الأفراد المستسلمين لقيود عديدة وبين الأفراد المتحلين بمرونة ذهنية وفكرية والقابلين لِتلقي معلومات وأفكار جديدة. فقد لاحظ ريتش أن الأفراد المتقوقعين ضمن إطار محدد يعانون من مشاعر القلق الدائم وذلك لصعوبة اختراقهم الجدار النفسي الداخلي القامع لجميع دوافعهم البيولوجية. فالدافع النفسي يستمر في محاولاته المتواصلة لثقب الجدار النفسي وللإعلان عن نفسه، وفي حال فشِل في ثقب هذا الجدار، نراه يلجأ مضطراً إلى ممارسة العنف والقوة.
نجد ذات التفسير عند هنري لابوريت فيقول "يرافق ظهور الدافع مشاعر الفرح والسعادة واللذة ليعبر عن راحة عند اكتفائه. أما في حالة عدم الاكتفاء وعجز الدافع عن التعبير عن ذاته للوصول إلى الراحة، نجده يسلك طريقاً معاكساً ليقوم بتوجه الفرد لتبني سلوك عنيف مغاير وذلك من أجل الهروب من فشله في تحقيق اكتفاء الغرائز". 
لا بد من التنويه إلى أن الإنسان لا يستطيع اكتفاء توازنه البيولوجي إلا من خلال فعل حركي يمارسه على المحيط الخارجي. وفي الحالة المعاكسة، يصبح الهروب والعراك أمراً ضرورياً، فهو وليد لمحاولة منع الفرد في تحقيق هذا التوازن والذي يؤدي إلى ولادة شعور القلق لديه.
ما تعاني منه البشرية اليوم هو ذاك التفاوت الفكري والعلمي بين المجتمعات، لينعكس بعضاً من آثاره السلبية الناتجة عن هذا التفاوت على المجتمعات المتفوقة علمياً ومعرفياً، لتشكل بعض الخطر عليها من جراء نزوح الأفكار المتقوقعة على هذه المجتمعات، ولتنشغل بمواجهة الخطر ودرئه بدلاً من تكملة الطريق نحو إبداع متجدد ومعرفة أوسع، فالخطر يأتي من المجتمعات والأفراد التي سلمت ذاتها للخرافات، لنجد أن سجناء العبودية والخرافة يسعون جاهدين في نشر أمراضهم الفيروسية على سائر شعوب الأرض.
كما نجد أن هذه المجتمعات الراكضة وراء اعتقاداتها الغيبية ما زالت تعاني من نقص في النضوج النفسي والنابعة من حاجتها لاكتفاء مشاعرها التائهة والإحساس بامتلاك قوة خفية توجهها وتساعدها في درء المخاطر عنها لحمايتها، كما هو الحال عند الطفل. فالرضيع يتعلم أن البكاء هو السبيل الوحيد لاكتفاء حاجاته البيولوجية من طعام وشراب. من هنا نجد أن المجتمعات الدينية التي لا تكف عن الإبتهال إلى إلهها من أجل إطعامها لا تختلف كثيراً عن حالة الرضيع العاجز عن إطعام نفسه. أي أن هذه المجتمعات لم تستطع تجاوز مراحلها الطفولية وذلك لخلل ما في عملية نضوجها الذي يأخذ اشكالاً متنوعة، فمنه النضوج الفيزيولوجي والنفسي والعقلي.
يكتمل النضوج النفسي من خلال عملية استيعاب الإنسان لحاجاته ورغباته ومشاعره المتضادة فيما بينها ومن ثم مصالحته مع ذاته، كما أن تجنب وقوع الإنسان في العبارات والمفردات المثالية، تزيد من حالة الإنفصال بين وعيه ولاوعيه والتي تؤثر بشكل خفي على سلوكياته وإدراكه وسلامة عقله. فنجد مثلاً أن تصرفاتنا مختزنة بطريقة آلية وباطنية ولا ندركها بشكل واع لأنها نتاج تراكمي نشأ عن الثقافة الاجتماعية والتربوية، فاختزنت في أعماقنا واندمجت بالأثر الحسي لحظة تلقينا إياها والتي تعترض اكتفاء الرغبات والغرائز البيولوجية الساعية للحصول على اكتفائها (أقصد هنا بعض المجتمعات المؤسسة على قواعد صارمة وقمعية تمارسها على أفرادها)، مما يولد حالة قمع مستمرة للرغبات وشعور بالإنكسار الداخلي لدى الفرد، فتدفعه لاستبدالها عبر مثاليات وأخلاقيات جماعية يتبناها. لكننا نعلم أن هذه المثاليات لا تروي عطش الرغبات الطبيعية البسيطة عند الإنسان والباحثة لتفريغ شحناتها، وفي هذه الحالة تخلق عند الفرد شعوراً بالضياع، فتتباعد المسافة ما بين رغباته الدفينة وبين تصرفاته اللاواعية والقيم والمثاليات التي صاغتها الجماعة له من أجل التحكم به والسيطرة عليه.
أما النضوج العقلي فنلاحظ أنه لا يكتمل إلا من خلال القراءة العلمية الخالية من أي رقابة حكومية أو دينية أو اجتماعية، والتحلي بقدرة هدم وبناء لجميع المعايير المشروطة من تعاليم أرادت بها الثقافة الاجتماعية ترسيخها للحد من تفكيرنا. وهنا يأتي دور المنشآت المدرسية وانفتاحها نحو جميع المفاهيم إن كانت جماعية أم فردية، ومن ثم يأتي دور الأهل في تربية أطفالهم واعتبارهم عقولاً مستقلة عنهم والإعتراف بقدراتهم العقلية، مع تجنب زرع قناعاتهم الخاصة بأطفالهم وترك المجال مفتوحاً أمام الأجيال القادمة للعطاء والإبداع.
مما لا شك فيه أن العامل النفسي للإنسان له أثر كبير في خلق مفاهيم وقناعات وأساليب جديدة يستطيع من خلالها إنعاش مشاعره الدفينة وتجديد الثقافة الاجتماعية وتوسيع قدرة الإدراك لخلق نماذج ثقافية جديدة.

ما زالت الينابيع الأولى تشكل أرضية خصبة لقناعات الإنسان حيث امتزجت رموزها ومخاوفها المتراكمة في الأنا الجماعي. وهي تداخلت مع المشاعر المتصارعة والمتزاحمة في الداخل النفسي للفرد حتى لم يعد بالإمكان النظر إليها كقوة مستقلة. وحيثما عجزت عن طرح تفاعلاتها النفسية إلى الخارج بصفة مباشرة، فانها بقيت حبيسة ذلك الداخل النفسي لتعبر عن نفسها بوسائل ورموز وقوانين وأخلاقيات غير مباشرة.
_________________________________________________________________