القسم الثالث الحلقة14: التراكم المعرفي




ربط فريدزر تطور الفكر البشري بحركة التطور النفسي وتراكم المعلومات والتجارب من جيل لآخر، مما يعني أن إلغاء الموروث الثقافي للمجتمعات هو عبارة عن حكم إعدام لعملية التطور الآتية من عملية اكتساب المعرفة بشكل تراكمي عبر الأجيال، ففي حال إفتراض قيام كل جماعة بالتجارب السابقة نفسها التي قامت بها الأجيال السابقة والتعلم من جديد لتأسيس خبرات متتالية لانعدم التقدم البشري. ولهذا سماها فريدزر بالتراكم المعرفي للروح الجماعية، أو بمسمى آخر "يونغي" اللاوعي الجماعي. وكما يعد الموروث الثقافي المتراكم العامل الأساسي لتطور المجتمعات، نجد أن تراكم الخبرات وتنوع المعلومات تساهم في ليونة الإدراك.
هنا يتوجب عليّ التوقف قليلاً للتعرف على آلية انتقال هذه التجارب والمعلومات الموجودة في وعاء جماعي إلى الأفراد.
أطلق يونغ مصطلحاً في علم النفس وهو اللاوعي الجماعي المرتكز على نظرية الرموز الأم المنبثقة بدورها من نظرية الحفاظ على الطاقة التي طرحها روبرت ماير الذي اعتبر أن فكرة الطاقة والحفاظ عليها هي الفكرة الأصلية الموجودة بشكل خفي في اللاوعي البشري. واعتبر أيضاً أن الديانات الأكثر بدائية المنتشرة في جميع أصقاع العالم، تأسست على صورة القوى السحرية الموجودة في كل مكان، لتكون مركزاً لكل شيء والذي أطلق عليها ارثور لفجوي اسم "الطاقة البدائية". فمنها انبثقت مصطلحات متعددة مثل الخصوبة، السحر، الروح، الإله...الخ، ليلجأ الإنسان إلى مزج الطاقة مع الرموز، فمنها نشأت مملكة الواكاندا في أفريقيا منذ آلاف السنين، ليطلق على كل قوة غير مفهومة أو ملموسة "الواكاندا"، فتعبر بذلك عن الأسرار والقوة والمقدسات الأبدية، فكانت الشمس والقمر والنجوم والرعد والريح والشياطين المسكونة في جميع العناصر، أي أنها (الواكاندا) كانت القوة العملية والكونية.
لاحظ يونغ أن هذه الصور وجدت عند أعراق مختلفة ومجتمعات متباعدة عن بعضها البعض، فكانت متشابهة في الرمز، ومختلفة في تفسيرها، لأنها نشأت من ظروف خارجية مختلفة للشعوب، لينتج عنها عملية دمج الظروف والعوامل الخارجية المحيطة مع التفاعلات النفسية لتعطينا تفاسير مختلفة. أما فريدزر فقد اعتبر أن تشابه طبيعة الظروف الخارجية التي مرت بها المجتمعات أدت إلى تشابه في العادات والتقاليد الناشئة عن رغبات نفسية متفاعلة مع المحيط الخارجي، فكان لعامل المناخ، والحرارة وتوفر المياه، تأثيرها على الشعوب.
ومن هنا نلاحظ أن المعتقدات والأديان استمدت جوهرها ومنبعها من العوامل الشتى المختلطة فيما بينها، لتتلاءم معها وتستمد قوتها من التأقلم الناتج عن تلك العملية، فتتغلغل نفسياً في أفرادها وتتشعب في أفكارهم لتكون الرموز الأصلية في اللاوعي. 
تكلم يونغ عن تلك الصور البدائية فلاحظ أنها تتألف من أشكال تمثيلية أكثر بدائية وأكثر تراجعاً في تاريخنا البشري والتي ربما أتتنا من الخطوط الوراثية من الأسلاف، فكما يرث الإنسان أعضائه من قلب ودماغ، يرث أيضا الخصائص النفسية والرموز القديمة الآتية منذ نشأة الكائنات الحية. وهذا ما شرحه فيرينكزي في فرضيته الخاصة بانتقال ذكريات المعاناة القديمة إلينا، ومنها معاناة أسلافنا الحيوانات، والتي نشأت من جراء التأقلم مع المحيط الخارجي والتي أدت إلى تطور جهازها من مائي إلى برمائي. 
هذه المعاناة تسجلت في نظامنا النفسي، حسب فيرينكزي، فهي تنتقل من جيل إلى آخر بطريقة لاواعية. وهكذا وجد يونغ أن الرموز الأم أتت من التاريخ البعيد وقبل ظهور العرق الإنساني وتطوره. 
وكما للإنسان معاناته ورموزه، فللحيوانات أيضاً رموزها الخطابية فيما بينها ومعاناتها الداخلية. 
وبالرغم من جهلنا لكثير من الأشياء عنها ورغم استمرارية المحاولات الجدية والبحوث واتساع رقعة علم الحيوان، إلا أنه ما يزال ينقصنا، إلى يومنا هذا، الكثير لاكتشاف عوالم الحيوانات وطريقة إدراكها.
بحث العلم كثيراً في آلية انتقال المعاناة النفسية وراثياً، إلا أنه لم يصل إلى جواب علمي شاف وكاف، فالفرضيات المبنية على هذه الملاحظات عجزت عن إعطاء جدول تفسير لآلية تسجيل الخصائص والمعاناة النفسية في الخريطة الجينية.
إلا أننا نستطيع تفسير انتقال هذه المعاناة أو الخصائص عند البشر عن طريق الوعاء الثقافي وهذا ربما ما قصده يونغ في اللاوعي الجماعي.
نلاحظ أن الحضارات الإنسانية القديمة قامت باستخدام رموز عدة تشابهت إلى حد كبير فيما بينها، فالتراكم الرمزي أخذ حيزاً مهما في داخلها، لتنبع من هذا التراكم، في مرحلة لاحقة، عملية نقش صور عديدة على الجدران كي نستطيع استذكارها فيما بعد والقيام بتحفيز الدماغ وربط هذه الصور بالمستجدات المعرفية كمحاولاتنا الشتى في فهم كينونة الإنسان والكائنات الحية الأخرى.
تابع هذا الوعاء رحلته عبر الأجيال ليكمل عملية نقل التجارب عن طريق العبارات والمفردات المتداولة بطريقة شفوية وتربوية، ولينقش الإنسان الرموز ويرسمها، في زمن آخر، لتكون تعبيراً عما يجول في فكره(*99)، وبعد اختراعه للكتابة أصبحت عملية انتقال هذا الموروث أسهل بكثير لتسجل المعلومات كتابياً.
كما يمكن القول: إن هذا الوعاء انتقل إلينا في مراحله الأولى عبر الرموز البدائية من خلال التعبير وقدرة الذاكرة الإنسانية على تخزينها ونقلها من جيل لآخر. 
ومع مرور الزمن وتراكم الخبرات والتجارب تحول هذا الوعاء وبما يحمله من رموز وعبارات وكلمات وسلوكيات فردية إلى قوانين وأخلاق بعد إخضاعها لعملية غربلة جماعية.

ولا ننسى أن التفاعلات الإنسانية المتأثرة والناتجة عن ظروف محيطية معينة، أعطت زخماً مستقلاً لبعض القوانين، لتنفصل فيما بعد عن التفاعلات الأولية وتكتسب بذلك قوة خارجية مستقلة تتحكم بالأفراد والجماعات.
___________________________________________________________________________________________
*99- لا أتطرق في هذه الجملة إلى العوامل التي حفزت الإنسان على ممارسة النقوش والرسم على الجدران، فهي عديدة ومنها اعتقاد الإنسان بقوة النقش والرسم كقوة سحرية يمكنها التأثير على الواقع.