القسم الثالث الحلقة13: الحدس اللاواعي الجزء الثاني



لقراءة الحدس اللاواعي الجزء الأول


عودة إلى الحياة النفسية اللاواعية، وهذه المرة من خلال فرويد الذي اعتبر أن الحياة النفسية اللاواعية لا تقتصر على سلسلة من ردات فعل عصبية فقط بل تصل قدرتها على معالجة المحتوى العقلي، وهذا ما أكده علم الأعصاب الحديث، أي أن حياتنا العقلية اللاواعية غنية بالأحداث والقدرة على معالجتها، زيادة على ذلك، لا تقتصر حياتنا العقلية على وعينا فقط، بل تمتد إلى أبعد من تصوراتنا، فما نعتبره أحيانا قدرات إعجازية مصدرها عطاء أو هبة إلهية، ما هي إلا تمثيلات عقلية لاواعية غنية ونشيطة. فمثلاً التمثيلات المحددة من خلال نشاط الكوليكوس الأعلى تنشئ صورة واضحة للتصنيف اللاواعي الممثل وغير المتصل مع الوعي، فكما شرحها نكاش، أن مصابين بـ "بصيرة العميان" والسليمين أيضا، يتمتعون بقدرات إدراكية عديدة الأوجه والمدلولات، وذلك بفضل الكوليكوس اللاواعي، كما أن هناك العديد من الأعصاب التي تملك معلومات واضحة لكنها تبقى في مرحلة اللاوعي وذلك لغياب الإحتكاك بين هذه المعلومات وبين مساحة العمل الكلي.
واذا تساءلنا عن كيفية إلتقاط المعلومة من الخارج ليتم تسجيلها في ذاكرتنا، نلاحظ وجود ثلاثة أنماط تمر من خلالها المعلومة للتخزين:
1ـ تسجل المعلومة حسياً، أي أنه يتم معالجتها تحت شكل صورة عقلية إذا كانت المعلومة مرئية، أما إذا كانت سمعية فتتم معالجتها تحت صورة صوتية في السجل الحسي، كما نلاحظ أن المعلومة خاضعة إلى إنهيار سريع وضياع آني إذا لم تتوافر لها المدة الزمنية ليتم تحويلها إلى الذاكرة القصيرة المدى أو يمكنها الذهاب مباشرة إلى الذاكرة طويلة المدى من دون المرور على الذاكرة قصيرة المدى.
2ـ الذاكرة قصيرة المدى وهي مكان لتخزين المعلومات التي تمت معالجتها عند لحظة الإستقبال ويمكنها أن تسمى بذاكرة العمل وخصائصها متعلقة بالتخزين المؤقت ومعالجة المعلومات المناسبة لحل مشاكل معينة والموافقة للبيئة، أو يمكنها أن تصب في أهداف معينة، فذاكرة العمل لها قدرة تخزين محددة وقدرة معالجة. 
3ـ الذاكرة طويلة المدى ولها قدرة غير محددة، فهي التي تحتوي على جميع المعلومات، لهذا نراها مرتبطة بجميع الأنشطة الإدراكية وتساهم بحل كل ما يستصعب فهمه.
يمكننا القول: إن ذاكرة العمل عبارة عن مساحة عمل واعية لإنجاز هدف معين أو للدخول إلى الذاكرة طويلة المدى، حيث يتم تخزين المعلومة من دون اللجوء إلى تمثيلها بشكل واع، ولا ننسى أيضاً وجود نشاط وتفاعل لذاكرة العمل مع أنظمة الذاكرة طويلة المدى، فنلاحظ أن الذاكرة تسمح باستباق المشاعر لتحدد الحواس كي يتم استقبال المعلومة المرتبطة بالخارج بهدف التأقلم مع المحيط الخارجي، لتسمح للإنسان من خلال عملية التطور بتوسيع قدرات وظائفه الإدراكية. هذه الآلية أتاحت للإنسان القيام بتصنيف التجارب عبر مخططات متعددة ومنظمة حيث اعتبر أصحاب هذه النظرية أن الذاكرة تقوم بفك رموز المعلومات المخزنة لتحديد طريقة إعادة بنائها من جديد، أي أن المخططات عبارة عن عملية تنسيق لأفكار أو مفاهيم متناسقة فيما بينها أو تركيبات منظمة بهدف مساعدة الإنسان في فهم محيطه وثقافته، وهذا ما يساعدنا في فهم تركيبة النموذج الثقافي من خلال علم الأنتربولوجيا والنفس في آن واحد.
لاحظ اختصاصي علم النفس فريديريك بارتيليت وبعد التطبيق العملي من خلال تجارب عدة، وجود مخططات مختلفة في دماغ الإنسان والتي تتشكل من خلال الغرائز التي تلعب الدور الرائد أثناء الطفولة، أو من خلال المصالح والمثل الآتيان في فترة لاحقة من حياة الإنسان، إذ وجد بارتيليت أن الأفراد الذين يتداولون نصاً لا يفهمون بعض تفاصيله الصغيرة ولا علاقة للنص بثقافتهم، يلجأون إلى بنائه من جديد كي يتناسب مع مخططهم الثقافي الخاص بهم وهذا ما يلقبه الأنتربولوجيون بـ"النموذج الثقافي"، أي أن الفرد يقوم في استيحاء أي مفهوم أو إيمان معين من خلال هذا النموذج، كما أوضحوا دور الذاكرة في التوجيه حيث تختزن المعلومات المتناسبة مع متطلبات محيط الأفراد.
 فما هو مدى تأثير العامل البيئي أو الثقافي في لجم النشاط العصبي الذي يعكس قدرات التلقي عند الإنسان؟
لقد تمت تجارب بحثية للوصول إلى نتائج تأثير الخارج على سلوكيات بيولوجية ليتم تغييرها بشكل فردي. لقد طبقت تجربة على بعض الجرذان من خلال إنشاء وسط فقير واللجوء فيما بعد إلى عزلهم في أقفاص فردية للبعض منهم، وتوفير وسط غني للبعض الآخر مع إبقائهم جماعياً داخل الأقفاص. وبعد فترة زمنية، قام الباحثون بقتل الجرذان لمعرفة الوزن الفعلي لأدمغتهم، فوجدوا أن أدمغة الجرذان ذات الوسط الغني أقل من أدمغة الجرذان ذات الوسط الفقير. أما في نتائج بحثية أخرى، فقد وجد باحثون آخرون وبعد تجارب تطبيقية أن دماغ الإنسان يكتسب ثلاثة أضعاف الوزن مقارنة للسنين الأولى من حياته. من هنا توصل الباحثون إلى أهمية دور التأثير الاجتماعي، أو الثقافي، أو المحيطي في عملية البناء داخل الدماغ وخصوصاً في منطقة اللحاء الدماغية. فهذه المنطقة هي التي تساهم في تركيب الأفكار والتعلم بشكل مباشر، لهذا نرى أن وظيفة الطقوس الجماعية أو المعتقدات التي تتشارك بها جماعة معينة، تقوم بتحديد الخبرات لأفرادها، وذلك يعود إلى ارتكاز الفرد على القاعدة الخارجية في جميع حالاتها، إن كانت اجتماعية أو ثقافية... في تعاطيه الإدراكي وقدرة تحليله للأمور من أجل إيجاد حلول لمسائل تشغل فكره، من هنا نجد إختلافاً في أسلوب التفكير وتعدد أساليب إستخدام المنطق بين الجماعات.
 يبحث الإنسان وبشكل طبيعي لا إرادي عن تأكيد ما يعرفه وما اكتسبه من خبرات، لهذا نراه يميل إلى الحلول والرؤى المتفقة مع معتقداته والمختزنة في ذاكرته، وعلينا ألا ننسى أيضاً علاقة الاستنتاج والأحكام الجمعية والفردية المرتبطة بالدوافع والعاطفة.
توصل داماسيو بعد تجارب عدة، إلى أن العاطفة هي من تتحكم بالتفكير، فهي التي تقودنا إلى تبني القرارات، فالتفكير عبارة عن سلسلة من أحداث لتمثيلات عقلية ذات أهداف محددة، فمنها ما يتضمن نماذج عقلية شارحة، و منها ما تتبنى إتجاه توقعي. نجد أن عملية التفكير الإنساني تتألف من مفاهيم وصور داخلية تقوم بفرز مجموعة معينة ذات خصائص مشتركة لأحداث معينة، ليتم تعريفها فيما بعد من خلال التشابه والتباين مع المعطيات الخارجية، وهذا ما يسمى بعملية التصنيف.

 أما يونغ فقد اعتبر أن التفكير يسمح لنا بإيجاد معنى لشيء ما، وتقوم العاطفة بتحديد القيمة، فوعينا ناشئ عن علاقة الأنا بالعقل الناشئ عن نتائج لعمليات دماغية حيث يعاد إنتاجها وتكرارها على نحو متجدد من دون نهاية، فجاء تعريف يونغ لـ "الأنا" على أنها حصيلة وظائف حسية مهمتها إرسال المحفزات والمنشطات الآتية من الخارج والداخل، وبهذا الشكل يستند "الأنا" على تراكمات هائلة من صور الماضي.