القسم الثالث الحلقة12: الحدس اللاواعي الجزء الأول




نلاحظ في كثير من الأحيان وخصوصاً في المجتمعات الدينية إنجراف الكثير من الأفراد نحو إعطاء تفاسير غيبية لكل ما يصادفهم من دون البحث عن تفسير علمي له.
ويعود ذلك لعدة عوامل من أهمها؛ عدم توفر المعلومات العلمية الخاصة في معظم المجالات التي يمكنها أن تجيب على إشكاليات واستجوابات يمكنها أن تضعضع المنابع الأولى للأديان.
وهنا نجد أن المجتمعات الدينية تمنع وتحاول التشكيك الدائم بأية نظرية علمية لا تتناسب مع أرضيتها الدينية، فتُخضع الأفراد لرقابة اجتماعية ودينية ومن ثم فردية، لينتج عنها نقص في الوعي، وليصبح الدين جواباً فورياً لكل فرد عجز عن استخدام عقله.
أتاح لنا علم النفس العصبي بكل مدارسه وفروعه معرفة أكبر لآلية الإدراك ومدى أثر الثقافة الاجتماعية في توجيه الأفراد نحو أسلوب معين يخص التعلم والإدراك. 
فقد استطاع علم الأعصاب من خلال تجارب عدة تسليط الضوء على الرادع الذاتي الآتي من تمثيل عقلي والناتج عن حالة واعية للفرد المستندة على ثقافة الوعي الجماعية(*95)، فنجد أن الثقافة الاجتماعية المتحلية بمرونة تساهم في ثراء التمثيلات العقلية العاكسة إيجابياً على الفرد. فبعد دراسات وأبحاث عديدة توصل علم الأعصاب للإجابة وبشكل قاطع على أن اللاوعي الإدراكي خاضع لتأثير النشاط العقلي الواعي، أي أن الوعي هو من يحدد المصير النفسي والدماغي لعدة عمليات إدراكية لاواعية(*96)، لهذا نرى وجود تقنيات حديثة من أجل تطوير الشخصية تستند على تمارين يستطيع الفرد تنفيذها من خلال الإيحاء الذاتي لتغيير بعض التصرفات والسلوكيات عند الفرد، ولإنجاح رغبات وطموح الفرد، وهذا ما يسمى بآلية الهبوط من الأعلى. وفي ذات الوقت، نجد آلية أخرى تسمى بالصعود من الأسفل أي من اللاوعي الى الوعي.
يساهم الوعي واللاوعي في عملية التعلم والإكتساب، ففي البدء يعالج الدماغ أية معلومة قادمة إليه من الخارج بطريقة واعية، لتسمح بخلق تمثيلات عقلية جديدة، وعند استيعاب ما تم تلقينه للفرد، تستطيع هذه التمثيلات العقلية المشاركة في الحياة العقلية اللاواعية. وهنا شرح ليونيل نكاش آلية الإبداع(*97) عند الفرد مستنداً بذلك إلى ما وضعه جاك هادامار، ليبين لنا أن أي عملية إكتشاف لمعادلة رياضية جديدة عليها المرور بأربعة مراحل فكرية؛ الأولى تؤهل المرحلة التحضيرية التي تستدعي التفكير مطولاً بطبيعة المشكلة من خلال مجموعة معرفية واعية، تليها مرحلة الإحتضان والتي تعني إنشغال الوعي بأمور أخرى لا تتعلق بالمشكلة وحلولها لتركها إلى النشاط العقلي اللاواعي كي تأتي فيما بعد المرحلة الثالثة المتميزة والمسماة بمرحلة الإنارة الناتجة عن المرحلة التي سبقتها (الاحتضان)، أما مرحلة الإنتهاء والتي تعد آخر المراحل وأطولها، ففي هذه المرحلة يتم التدقيق الواعي والعمل على جودته. هذا التسلسل في المراحل يتيح لنا أن نرى عملية تكامل بين النشاط العقلي اللاواعي والواعي سوية، فدماغنا يلقط ويسجل التمثيلات العقلية من الخارج لتختزن في ذاكرته وتنشط مع باقي التمثيلات بشكل لاواع، وكما قال كارل يونغ "ينسى الإنسان ما سمعه طوال فترة حياته، لا بل أحياناً لا يعي ما يسمعه وما يراه وما يشمه وما يلمسه وما يقرأه، إلا أن هذه التمثيلات جميعاً تكبر في لاوعيه، لتكون حاضرة من دون علمه". وهذا ما اكتشفه علم الأعصاب من خلال التجارب والتصوير الدماغي على أن اللاوعي يعمل كفرق من خبراء، فكل فريق يعمل على حدة لإيجاد حلول وعروض لحل المشكلة الموجودة، أو لتنبيه صاحبها بتجنب أمور معينة يمكنها أن تؤثر عليه سلباً. وبصيغة "يونغية"، دعونا نقول: إن الحدس هو حالة معينة لقدرات مختزنة ناتجة من جراء عملية إكتساب وتراكم الخبرات والمعلومات والتجارب والتي يمكنها الظهور حسب المعطيات النفسية والخارجية.
لقد تكلمت عن التمثيلات العقلية الواعية واللاواعية. أما الآن فسأتطرق لتعريف التمثيلات العقلية اللاواعية. 
يُعرف علم الأعصاب والنفس التمثيل اللاواعي على أنه عبارة عن مجموعة معلومات لاواعية ممثلة في دماغنا بشكل واضح وفي ذات الوقت ممثلة في النشاط الكهربائي للأعصاب، ليؤكد لنا عن وجود شيفرات بنيوية لاواعية تساهم في مرحلة التعلم بتعديل المشابك العصبية وبناء نظامنا العصبي من خلال شيفرات موجودة في المفارغ الكهربائية لشبكة الأعصاب الدماغية.
قام علم الأعصاب بتجارب عديدة موضحاً لنا حالات عجز العلم عن تفسيرها سابقاً، مثل حالة "بصيرة العميان"، والتي تعني قدرة المصاب على رؤية إدراكية لاواعية بالرغم من وجود ضرر في المناطق القشرية، حيث قام بعض الإختصاصيين بتخريب أو هدم المنطقة القشرية البصرية بشكل متعمد لقرود المكاك، فعند إكراه قرود المكاك على اكتشاف مكان الضوء، استطاعوا الإستدلال عليه مع العلم أن المنطقة المسؤولة لمشاهدة الضوء كانت متضررة لديهم، أي بمعنى آخر استطاع قرود المكاك الرؤية بشكل لاواع، ومثلهم استطاع المصاب "دجي.واي" عند إرغامه على الجواب أن يقود نظره وأن يضع أصبعه تجاه المنطقة المضاءة علماً أن "ادجي.واي" لم يكن يستطيع رؤية الضوء فقد كان يعاني هو أيضاً من ضرر في المناطق القشرية البصرية.
أعطى الدكتور موريس بتيتو شرحاً لهذه الظاهرة بالقول: عندما تدخل المعلومة الضوئية شبكية العين تتحول إلى معلومة كهربائية، فتمتد أعصاب الشبكية لتتحد وتشكل العصب البصري لتنقل المعلومة الكهربائية إلى رابط في مركز الدماغ يسمى (الجسم الوحشي الركبي أو لاترال جينيكيوليت نيكلس). تستعيد أعصاب الجسم الوحشي الركبي المعلومة، ليتم إرسالها إلى مركز التحاليل للمحفزات البصرية، من هنا وجد إختصاصي النفس- العصبي بتيتو أن تسعين بالمائة من الألياف البصرية تسلك هذا الطريق (جينيكولوكورتيكال)، بينما تذهب العشرة الباقية من الألياف إلى نواة تدعى "الكوليكولوس الأعلى" والتي تعد نهاية الممر فهي التي تعالج المعلومة الآتية من شبكية العين(*98).
أدت هذه الملاحظات إلى إعداد "نظرية النظامين البصريين"، أي أن ممر "الكوليكولر" هو المسؤول عن كشف وتحديد المكان لأي حدث بصري، أما من يحدد هوية هذا الحدث البصري فهو ممر "جينيكولوكورتيكال". أي أن "الكوليكولوس الأعلى" يعمل كحارس أو خفير ينقل كشافه الضوئي إلى مكان الهدف للتعرف عليه ويساعده في ذلك الـ"جينيكولوكورتيكال".
 هذه الملاحظات والتجارب العديدة للأخوين بيتيتو وزملائهما ساعدت باكتشاف وجود إدراك لاواعي بصري مما يعزز فرضية وجود وحدات معالجة حسية لاواعية عند مصابي "بصيرة العميان".

تطرقت إلى موضوع "بصيرة العميان" بهدف الإشارة إلى أن الأمور المبهمة والغامضة لها تفاسير علمية دقيقة، فكلما ازداد العلم معرفة وتجربة تبينت لنا وبوضوح أسباب الظواهر التي جهلها الإنسان في فترات تاريخية. حاجتنا اليوم إلى الإيمان بالعلم يتطلبها التقدم في هذه الحياة وازدياد الوعي والإدراك الإنساني والذي يعد أهم بكثير من اكتفاء بضعة مشاعر نفسية تقوم الغيبيات على تغذيتها وتقويتها، لتكون حاجزاً يحول بيننا وبين المعرفة... يتبع

الجزء الثاني
_____________________________________________________________________________________________
*95 - في هذه النقطة تعارض علم الأعصاب مع فرويد الذي أصر على أن الرادع الذاتي ناتج عن حالة لاواعية، بينما اتفق معه فيما يتعلق بثراء الحياة العقلية اللاواعية وان أي عمل مرتبط بالإرادة الواعية أساسه تمثيل عقلي لاواعي (تجربة بينيامين ليبيت) حيث تخضع الأفعال إلى تشفير في نظامنا العصبي، فالقرار لايأتينا إلا بعد عملية انتقاء. 
*96 - تجربة دوهاين ونكاش عام 2000.
*97 - كتاب الأثر النفسي للإبداع في مجال الرياضيات لجاك هادامار.
*98 - تعتمد الضفدعة كلياً على بنية هذه النواة التي تسمح لها بالتقاط الذباب الطائر عند الاقتراب نوعاً ما من لسانها.