القسم الثالث الحلقة11: آلية انتقاء التمثيلات العقلية



مما لا شك فيه أن العلم لا يمل ولا يتراجع في تحفيز العقل على طرح الأسئلة للوصول إلى أجوبة تمنح اختصاصييها بعض الاكتفاء الآني. فما يميز الأجوبة العلمية عن الأجوبة الغيبية المستندة إلى خيال بسيط غير تجريبي، هو أن العلم يستند على الأساس التجريبي.
تنوعت الأبحاث والدراسات والعلوم للبحث عن علاقة تربط العقل بالدماغ، ليتوصل اختصاصي علم الأعصاب بوضع تفسيرات وتوضيح الصورة لما يجري لدماغنا من خلال إيجاد نموذج يستطيع الإجابة على أسئلة متعددة توضح لنا علاقة الوعي باللاوعي واحتمالية وقوع الوعي تحت تأثير نشاط منطقة معينة في الدماغ... مما استدعى الباحثين العلميين البدء في بناء نموذج واقعي ناتج عن معطيات تجريبية لوضع تفسير لسببية الظواهر.
بعد دراسات وتجارب عديدة في السنوات الأخيرة تضمنت براهين منطقية(*88). توصل الباحثون في مجال علم الأعصاب إلى وضع أحد النماذج التجريبية والمسماة بـ"مساحة العمل الكلي الواعي(*89)، ليكون لنا نموذجاً بيولوجياً واعياً مرتكزاً على معطيات تجريبية غنية متنوعة تجمع بين علم التشريح وعلم العصب النفسي الإكلينيكي والفيزيولوجيا الدماغية وعلم النفس التجريبي والتصوير الدماغي.
يستند نموذج "مساحة العمل الكلي الواعي" على المسلمات العلمية والذي يقسم الدماغ إلى نصفي كرتين، فمن جهة نجد العديد من الدوائر الصغيرة الدماغية التي لا تتوقف عن العمل من أجل تحضير دقيق لكم من التمثيلات العقلية اللاواعية في كل لحظة، ومن جهة أخرى نجد شبكة عصبية مختلفة عن تلك الدوائر تتناسب محتوياتها مع تمثيل عقلي واحد في كل لحظة. هذه الشبكة العصبية الوحيدة لقبت من قبل اختصاصيي الأعصاب بـ"مساحة العمل الكلي الواعي" والتي تتمتع بخصائص عديدة أهمها؛ تخترق الخلايا العصبية التي تشكل هذه الشبكة عدد كبير من المناطق الدماغية، وهذا ما يسمح للاختصاصيين اعتبار وجود شبكة مركزية متصلة بوحدات معالجة دماغية متخصصة يمكنها الإتصال بكل منها على حدة، لتستطيع هذه الشبكة القيام بعملية تغيير لأي نوع من المعلومات، كما يمكنها توفير آلية لتحقيق إبداع عقلي، الأمر الذي يميز طريقة التفكير الواعي. أما الخصوصية الثانية لهذا النموذج فهي القدرة على الإتصال بين الأعصاب المشكلة لهذه الشبكة(*90). وأخيراً نجد أن الخصوصية الأخيرة المهمة لهذا النموذج هي الأكثر تركيباً وتقنية والمتعلقة بكيفية وصول المعلومة الخارجية إلى قلب مساحة العمل الكلية الواعية ووصول المعلومات ذات التمثيلات اللاواعية إلى "مساحة العمل الكلية الواعية".
 تعالج "مساحة العمل الكلية" تمثيلاً عقلياً واحداً لا أكثر في كل لحظة،(*91) مع العلم أن آلاف التمثيلات اللاواعية تقف منتظرة على أبوابها كي يتم انتقاء إحدى التمثيلات التي تجد أرضية مناسبة في لحظة مناسبة لها، فالمعلومات الممثلة بطريقة لاواعية في عدة شبكات عصبية صغيرة تستطيع اقتحام مساحة العمل الكلي والوصول إلى الوعي بعد إخضاعها إلى آلية تسمى بـ "التضخيم الإنتباهي الأسفلي".
أما انتقال التمثيل من حالته اللاواعية إلى حالة واعية يستدعي إتصالاً ثنائي الإتجاه بين وحدات المعالجة المحيطة والشبكة المركزية، ليسمح بتلقي الرسائل واستلامها بهدف إرسال التمثيل العقلي الذي تم تحضيره إلى أعصاب الشبكة المركزية بواسطة وحدات المعالجة. ولكن ليس من الضروري في حال حدوث هذا الإتصال أن يأخذ التمثيل اللاواعي شكله الواعي وذلك لأسباب عديدة منها ما يتعلق بوفرة بعض العوامل المهيئة لهذا الانتقال؛ كامتلاك التمثيل العقلي لمعلومة ما قيمة شعورية، أو إحتوائه على مضمون لديه ذات توجه المحتويات الموجودة في مساحة العمل الواعي، أي أن مساحة العمل الواعي تميل لاختيار المحتويات الموجودة في التمثيل العقلي اللا واعي التي تلائمها لتحقيق عملية انسجام فيما بينها، وهذا ما يساهم في اختياره عوضاً عن آخر، ومن هنا تنشأ لدينا الفكرة الواعية، فمحتوى الوعي يتمثل بالنشاط العصبي المرتبط على نطاق الشبكة الكلية(*92).
تعتبر عملية الوعي عملية متتالية لحالات مستقرة فهي لا تأتي بشكل عشوائي، بل هي ذاك الترابط بين الأحداث والتجارب والثقافة التي اكتسبناها من خلال حياتنا، لهذا نرى أن من يؤمن بفكرة أو دين أو أيديولوجية معينة، لا يستطيع الإنفلات منها إلا من خلال دراسة وبحث ذاتي وانفتاح على النظريات والثقافات المختلفة عنه، ولا يأتي هذا إلا من خلال اقتناع في جدوى هذا البحث الغني الذي يؤثر تأثيراً إيجابياً على الفرد ومن ثم على المجتمع.
حالة الوعي لأنفسنا التي نعيشها جميعاً تختلف عن حالة الوعي للمحتويات الواعية التي تتطلب وصول فكرة معينة إلى وعينا. فالأولى تعتمد على سلامة مساحة العمل الكلي تشريحياً ووظيفياً، أما الحالة الثانية للوعي، أي وصول فكرة ما إلى الوعي بطريقة متعمدة (بالمعنى الفينومولوجي)(*93)تتم من خلال إرسال الغرض العقلي الممثل بوحدة المعالجة المحيطي إلى آلية الإدراك.
وحسب نموذج مساحة العمل الكلي، تبين وجود أربع فئات لوحدات المعالجة العصبية(*94)غير خاضعة لوعينا، أي إن كل واحدة منهن تشكل طبقة مختلفة عن الأخرى في اللاوعي، فعملية وعي أي تمثيل عقلي يجب أن يكون ممثلاً بطريقة واضحة تحت شكل شيفرة عصبية نشيطة في مجمع للأعصاب، كما يجب عليه أن يكون مشفراً من خلال وحدة معالجة عصبية تشريحية متصلة بالأعصاب والتي تشكل مساحة العمل الكلي، كما أن إحتواء التمثيل العقلي على كثافة ومدة زمنية تفوق الحد الأدنى يسمح بتفعيل آلية التضخيم الإنتباهي الأسفلي على شرط أن تكون مساحة العمل الكلي شاغرة كي تتمكن من تضخيم المعلومة الآتية إليها.

 اعتبر نكاش أن المرحلة الأولى لبناء صورة عقلية تتم بطريقة لاواعية، أما تسربها إلى وعينا فيتم في المرحلة التالية عموماً حيث وضح ذلك من خلال مثل أعطاه عن الفترة الزمنية لأي إدراك نظري، فدماغنا العقلي يقوم بتحضير مجموعة من الصور العقلية الغنية اللاواعية في فترة قصيرة لا تتعدى أجزاء الثانية، وابتداءً من هذه المدة تبدأ عملية الوعي لبعض التمثيلات العقلية. كما يتم أحيانا اختيار تمثيل لاواعي من بين تمثيلات عديدة بطريقة لاواعية لخضوعها إلى حكم التفضيل (ترجيح العرض المؤثر لزاجونك)، أو بمعنى آخر، التعرض المتكرر لشخص أو لشيء يزيد من إحتمال وجود شعور إيجابي تجاهه، فكلما يتكرر عرض المحفز يتغير لدينا السلوك المتبع، أما تفسيره فيعود إلى البنية الوظيفية للدماغ أي خضوعها لمحفز ما لمدة زمنية طويلة لتقوم بتوجيه عملية التفضيل تجاه هذا المحفز، فالإدراك اللاشعوري يستند على بنية اللاوعي نفسه.
_______________________________________________________________________________________________
*88-التجارب وهي: كريك وكوخ عام 1990، دوهاين وكير سبيرج وشانجو عام 1998; جو هاين ونكاش عام 2001، تونوني وادلمان عام 1998.
*89- وضع ستانيسلاس دوهاين وجان بيير شانجو وميشيل كير سبيرج وليونيل نكاش أسس نموذج "مساحة العمل الكلي".
*90- كتاب اللاوعي الجديد لاختصاصي الأعصاب ليونيل نكاش، صفحة 273، قام بتوضيح عمل هذه الشبكة حيث أعطى مثالاً يشبه بها الخلايا العصبية في الشبكة الكلية بمجموعة من الضيوف الساهرين في أمسية صالونية. وبعد افتراض وضع أحد الميكروفونات في وسط الصالون، وذلك لتسجيل المحادثات المختلفة بين الضيوف والتي يمكنها أن تأخذ أشكالاً متنوعة  حيث يمكنها أن تكون محادثة  واحدة يشترك  فيها جميع الضيوف  على أسس مراعاة  أسلوب النقاش، ليأخذ كل منهم دوره بالحديث دون مقاطعة الآخر. ففي هذه الحالة يكون لدينا حديث واحد وصوت واحد في كل لحظة، وبالمقابل يزداد النشاط بازدياد العدد مع تطور النقاش بشكل موحد. ومن هنا يمكننا القول: إن الأعصاب ترمز الى الضيوف، أما علاقة الضيوف ببعضهم فيرمزوا الى المشابك العصبية التي تربط كل عصب بآخر، أما النقاش التنظيمي الدوري بين الضيوف فهو يرمز الى نموذج "مساحة العمل الكلي" الذي ينشغل في كل لحظة بتمثيل عقلي.
*91- أوضحت التجارب التي قام بها اختصاصي النفس الإدراكي "جورج سبيرلينغ" على ان الإنسان لا يستطيع معالجة أكثر من تمثيل عقلي بشكل واع.
*92- الشبكة الكلية: عمل مجموعة أعصاب متصلين مع بعضهم بشكل واسع.
*93- ايدموند هوسيرت من أوائل المؤسسين للفينومينولوجيا الفلسفية التي تؤكد على ضرورة دراسة محتويات الوعي. 
*94- ليونيل نكاش في كتابه "اللاوعي الجديد" القسم الثاني، الفصل الثالث صفحة 291-302.