القسم الثالث الحلقة10: تطور الوعي






لا شك أن الوعاء الثقافي بما يحمله من معتقدات وعادات وسلوكيات هوحصيلة درجة الوعي لدى جماعة ما، ومما لا شك فيه أننا جميعا نسعى إلى رفع وعينا من أجل إدراك كل ما هو مستعص عن إدراكنا في وقتنا الحالي. وربما أيضاً علينا العودة إلى الماضي وفهم ما كان غامضاً على الإنسان وما جعله فريسة لمخاوفه النفسية، ليلجأ إلى إخمادها عن طريق الخرافات والروحانيات ومن ثم الأديان. وربما آن الآوان أن نفهم آلية تطور الدماغ عبر الزمان من خلال بعض النظريات العصبية لدماغ الإنسان (الهايبوكيمبس والاميجدلا) واللذان ساهما في اكتسابنا خصوصيتين مهمتين وهما: القدرة على التذكر وتقييم الواقعة، فنجد أن الاستذكار مرتكز على الشحنات العاطفية والأحاسيس. فكما وجد ميكائيل بيرسينجر التغيير الذي طرأ على (الهايبوكيمبس والاميجدلا)، نرى أن جيرالد ادلمان قد أضاف لنا مفهوماً آخر كان قد ساهم في تطور الدماغ عند الإنسان، ألا وهو (القيمة) التي ترتبط بالتاريخ الفردي وكل ما نتج عنه من اكتساب لخبرة ما.
طرح هنري لابوريت أثر الثقافة الاجتماعية على الذاكرة والتي تسمح بخلق تلقائيات عند الفرد وهذا ما نسميه بالتصنيف الثقافي، أي أن الثقافة والبيئة تحددان مسار الذاكرة في حفظ المعلومات الملائمة لثقافة جماعتها ولمتطلباتها أو حاجاتها الجديدة، ولتعريف الحاجة الفردية المرتبطة بالثقافة الجماعية، افترض لابوريت على أنها عبارة عن كمية من الطاقة أو المعلومة الضرورية للمحافظة على البنية العصبية الأصيلة أو المكتسبة الناشئة عن عملية التعلم، كما شرح هذه الآلية على أنها تحول مستقر في المشابك العصبية من خلال العملية الحيوية التي تقوم بها الخلية بتصنيع السلاسل الببتيدية من أجل تشكيل بروتينات تدخل في تكوين وصلات عصبية جديدة تجاوباً مع الأحداث الخارجية المستجدة، وهنا تصبح الحاجة محركاً أساسياً، فلا يمكن إشباع هذه الحاجات في وسط جماعي إلا من خلال مبدأ الهيمنة للجماعة، لتتحول الحاجة من توازن ما بين الداخل والخارج إلى سيطرة على الآخر، ومن هنا نشأ التسلسل الهرمي عند الجماعات من وجهة نظره.
كلما خضنا في دراسة وفهم ما يدور في دماغ الإنسان بشكل علمي، تتسع الهوة بيننا وبين التفكير الغيبي المسيطر إلى الآن على ثقافات عديدة، والذي ما زال يشكل موروثاً ثقافياً قديماً كحاجز فكري وإدراكي لدينا. ولن نستطيع التخلص منه إلا من خلال متابعة علمية لكل ما لا نستطيع فهمه ولكل ما يعجز إدراكنا عن إستيعابه، فبالعلم والمعرفة نستطيع توسيع إدراكنا، فإذا قمنا بجولة في دماغنا مع الإستناد إلى علم الأعصاب النفسي، نكتشف العديد من الصور العقلية أو (التمثيل العقلي) الواعية أو اللاواعية، إلا أن ما يؤثر في تغيير استراتيجية سلوكياتنا هي الصور أو التمثيلات العقلية الواعية القادرة على بتر تلقائية تفكيرنا والقدرة على خلق قوانين ومعطيات جديدة مستندة إلى وعينا.
رأينا كيف قام جيرالد ادلمان بإيجاد ترابط وتبادل ما بين المؤثرات الجينية على السلوك وتأثير السلوك على الجينات، فقد اعتبر أن البيئة هي من تمارس عملية الاصطفاء الطبيعي لصالحها. ليس هذا فحسب، بل إن للمورفولوجيا تأثيراً بالغاً في عملية تطور الوعي الذي نشأ عن عملية انتقاء الجملة العصبية وتطورها تدريجياً، والذي لقبه بالتطور المورفولوجي.
أوجد ادلمان نظريته الحديثة، وهي نظرية اصطفاء المجموعات العصبية، فقام بتقسيم الوعي إلى قسمين: الأول وهو الوعي الأولي، أما الثاني فقد أعطاه تسمية الوعي الأعلى كونه يتميز بتفوق على الأولي.
فما هو الوعي الأولي؟
اعتبر ادلمان أن الوعي الأولي ينقسم بدوره إلى نظامين في النظام العصبي: الأول مؤلف من منظومة مشكلة من الجذع الدماغي وجهاز النظام الحوفي (لمبيك سيستم)، ووظيفة هذه المنظومة هي تنطيم عملية الاغتذاء، كما أنها مسؤولة عن العملية الجنسية، إضافة إلى جميع استراتيجيات الدفاع التي اكتسبت واستمدت خصائصها من خلال التطور، كما أنها مسؤولة عن عمليات أخرى كالتنفس والتعرق والنوم...الخ، إضافة إلى ذلك نجد أن هذه المنظومة تخدم الأساسيات الضرورية للحياة، فنراها موجودة عند جميع الكائنات الحية التي تمتلك نظاماً عصبياً. 
إذن، فإن هذه المنظومة عبارة عن نظام داخلي تطور مع الزمن من خلال عملية التطور المستمرة. أما النظام الثاني والمؤلف من القشرة المهادية (تالاموكورتيكل)، منها المهاد (التالاموس) والذي يشكل البنية المركزية للدماغ والتي تحتوي خلاياه على نويات عدة وظيفتها تمرير الإشارات الحسية وغيرها إلى اللحاء، ليقوم الدماغ مرة أخرى بغربلتها، فيبرز بعضا منها ويقلص البعض الآخر.
ارتبط هذان النظامان ببعضهما البعض مع مرور الزمن مؤلفين بذلك الوعي الأولي كي يمنحا الكائنات الحية المقدرة على التأقلم مع البيئة الموجودة بها. لنلاحظ أن التعلم يشكل أساس التأقلم عند الإنسان والحيوان معاً. وبما أن البيئة متحولة وليست ثابتة، فهي في تغير مستمر في المكان والزمان. فنلاحظ أن الطبيعة تتخلص من كل البنيات غير المتأقلمة، فهي في انتقاء دائم للسلوكيات المتأقلمة معها، فالسلوك ينتج عن الخبرة البيئية التي تتيح للكائنات التعلم والتأقلم ضمن الشروط البيئية المتاحة لها. كما علينا ألا ننسى أيضاً أن سلوك التعلم المختار هو لاكتفاء الحاجات الفيزيولوجية والمدلولات المنبثقة من مجموعة الجذع الدماغي والنظام الحوفي (اللامبيك) لتتم عملية ضبط بينهما.
عودة إلى مفهوم الوعي الأولي والذي ساهم في وجوده القدرة على خلق مشاهد في عقلنا (حسب ادلمان). اقترن هذا الوعي الأولي بعملية التطور، ليتبين لنا أن ثلاثة وظائف أدت إلى نشوئه، الأولى وهي النظام القشري (كورتيكال) الذي سمح بارتباط المفهوم أو الأفكار مع النظام الحوفي الذي أدى إلى توسيع قدرة التعلم؛ أما الثانية فهي نمط جديد لذاكرة فهمية قادرة على ترتيب وتصنيف الأجوبة القادمة من الأنظمة الدماغية المختلفة المنفذة لوظيفة تصنيف العمليات الإدراكية؛ أما الوظيفة الثالثة التي ساهمت في نشوء الوعي الأولي، فهي حلقة ريانترانت (وهي بنية تتألف من خلايا عصبية تؤدي إلى ولادة حلقات معلوماتية من نوع تحكمي، أي أن حلقات الريانترانت عبارة عن مجموعة عصبونات متصلة ببنى قادرة على إعادة إنتاج مستمر للمعلومة بشكل تلقيم راجع، أي الفيدباك) ظهرت أثناء عملية التطور كبنية تشريحية عصبونية جديدة، تسمح للذاكرة القيمية-التصنيفية والذاكرة الخرائطية الجامعة والمعالجة الآنية للتصنيف الإدراكي مع تبادل إشارات مستمرة بطريقة إسترجاعية (ريانترانت).
أكد ادلمان وتونوني أهمية تشكل عقد التالامو- كورتيكال في ظهور الوعي، أي يمكننا القول: إن الوعي الأولي الموجود عند الإنسان والحيوان نشأ على أساس الذاكرة القصيرة والتفاعل ما بين نوع خاص من الذاكرة والتصنيف الإدراكي، مما أدى إلى ولادة الوعي الأولي. يرى ادلمان أن الكائنات التي تملك الوعي الأولي قادرة على خلق صور عقلية إلا أنها عاجزة عن النظر إلى هذه الصور من زاوية الأنا الاجتماعية كما هو حال الإنسان بعد تطور جهازه العصبي والعقلي واكتسابه الوعي الأعلى القادر على ربط كل تمثيل عقلي بقرينه الآخر لتشكيل سلسلة من تمثيلات عقلية مترابطة.
إذن، هناك التصنيف الإدراكي الذي يعالج الإشارات الآتية من العالم الخارجي من خلال الأعضاء الحسية، وهناك التصنيف المفاهيمي (القادر على تشكيل المفهوم) الذي يعمل داخل الدماغ ويعتمد بالتحديد على التصنيف الإدراكي للذاكرة.
هذه القدرة موجودة عند الإنسان إلا أن العلم يقر بوجودها أيضا عند الشامبانزي. فهذ الفصيلة من القرود تملك بعض العناصر من مفهوم الأنا.
إن بناء مفهوم الفردية مرتكز على التفاعلات الاجتماعية لإيجاد نموذج للعالم من خلال ربط الماضي بالحاضر والمستقبل. وهو ما يعني حتمية وجود ذاكرة رمزية. كما أن تطور المسالك الصوتية والمراكز الدماغية لفهم وإنتاج لغة ناطقة أدى إلى تطور الكلام عند الإنسان، والذي ساهم بشكل كبير في تطور الوعي البشري. حيث أدت اللغة إلى تطور مفهوم الأنا والى اكتساب الوعي الأعلى، فالتفاعلات الموجودة بين الأفراد والتي نتجت عنها القدرة على تخزين علاقات رمزية لفترات طويلة ساهمت إلى حد بعيد في نشوء الوعي الأعلى.
إن تفاعل أكثر من ذاكرة ونشوء ذاكرة معتمدة على التجارب الإدراكية حيث تستطيع ربط الماضي بالحاضر مع القدرة على خلق صور للمستقبل، هو الذي شكل جوهر عملية تخزين العلاقات الرمزية تلك.
يخضع الدماغ إلى عمليتين إنتقائيتين وهما الاصطفاء الطبيعي والاصطفاء الجسدي الذي بدوره يخضع للاصطفاء الطبيعي فهو يربط ما بين الإشارات الملتقطة والتمثيلات العقلية، ليقوم بتشكيل ولادة وعي مرتكز على مجموعة من العلاقات الموجودة ما بين الإدراك وبنية المفاهيم والذاكرة المتأثرة بنظام القيم الناشئة خلال فترة التطور، وكما أوضح لنا ادلمان في كتابه "بيولوجيا الوعي" مجرى الوعي الأعلى ومساهمته في بناء الخيال والمشاعر والأحاسيس والأفكار والأنا والإرادة. فسلوكنا متحكم من خلال ذاكرة ناتجة عن إعادة تصنيف نافذة تحت تأثير التغيرات الحيوية لعدد معين من القيم.

من هنا نرى أن تعاطينا للمفاهيم إن كانت اجتماعية أو دينية أو أخرى، قائمة بالإرتكاز على عملية التحول والتغير المستمر عبر الزمان، فلا إدراك ثابتاً ولا مفهوم محدداً في إطار معين، إنما إدراكنا وإضفاء القيم على المحيط الخارجي يتم من خلال وعينا المتغير للخارج كي يكون منحانا متلائماً مع الطبيعة والحياة نفسها، فعملية التطور عبر ملايين السنين استطاعت انتقاء آليات التعلم التي تساهم في عملية تأقلم الأنظمة العضوية مع بيئتها المناسبة للزمان والمكان المختلف. ولهذا نستطيع القول: إن الأخلاق الناتجة عن تقييمنا الإدراكي للأشياء والمعطيات تتغير بناءً على تغير في عملية الإدراك لإضفاء قيم جديدة أو الإستغناء عن قيم لم تعد تتماشى مع البيئة الخارجية.