القسم الأول الحلقة 16: أثر الخيال الطفولي على ولادة أبطال الأساطير -الجزء الثالث




لقراءة  أثر الخيال الطفولي على ولادة أبطال الأساطير -الجزء الأول
         أثر الخيال الطفولي على ولادة أبطال الأساطير -الجزء الثاني


عودة إلى عناصر التشابه بين عناصر الأسطورة والأديان، والتطرق إلى الوسيط المبشر للحمل عن طريق حلم أو وحي، فقد استطاع علم التحليل النفسي من خلال تفسيره للأحلام والرموز ولمجموعة من الحقائق الأثنولوجية والفلكلورية إيجاد دلالات ومعان للعناصر الأسطورية، لتوفر لنا أحلام الولادة مادة دسمة توضح من خلالها المعاني المختبئة خلف استخدام مكوني الصندوق والنهر في الأسطورة.
من خلال أحلام عدة قام بدراستها الكثير من اختصاصيي علم التحليل النفسي، تبين أن الرموز المستخدمة تتشابه إلى حد كبير مع مكونات "الرواية العائلية"، فمثلاً، نجد أن الصندوق يرمز إلى الحاضنة الأم، أي الرحم، بينما تؤشر المياه (النهر) إلى السائل الأمنيوتي الذي يسبح فيه الطفل، أما عنصر "الحبل" الموجود في أسطورة موسى، وعلى حسب بعض الروايات، نجد أن والدته كانت تقوم بربط الحبل بالصندوق والشجرة كلما سمعت أصوات جنود خشية على حياته إلى أن جاء ذلك اليوم عندما نسيت الأم ربط الحبل بالشجرة لكي يسحب الماء الصندوق. أي أن الحبل يرمز هنا إلى الحبل السري (وهو قناة تصل الجنين بالمشيمة)، كما يدل نسيان الحبل ووصول الصندوق إلى الضفة الأخرى على الولادة. وهنا لا بد من التطرق إلى حلم لإحدى حوامل اختصاصي التحليل النفسي د. كارل ابراهام(*29). فنلاحظ وجود ذات مكونات الأسطورة في الحلم، لتدل القناة التي تصل الغرفة بالمياه على الحبل السري والمياه على السائل الأمنيوتي، فمن القناة تظهر الفقمة التي ترمز إلى الجنين حيث يعيشان كلاهما في وسط سائل. أما في القصص الشعبية الألمانية ودلالاتها، يرمز البئر إلى رحم المرأة. بينما نجد أن مكان أصل الأطفال هو الغابة حيث تسكن الروح في أعماق المياه أو في مستنقعاتها عند الشعوب البدائية مثل قبائل آسيا الوسطى أو عند القبائل البدائية الأسترالية. كما نلاحظ في معظم الأساطير وجود عنصر الحيوانات المنقذة التي تتدخل لتسهيل عملية الولادة، كما هو حال طائر اللقلق الذي نجده في بعض الروايات والقصص الشعبية الأوروبية.
 هناك الكثير من الرموز المستخدمة للدلالة على رحم الأم كالبئر أو الصندوق أو الكهف أو الحفرة أو الشجرة الجوفاء... وكلها تؤشر في معظم ثقافات القبائل إلى المكان الأولي لإقامة الأرواح، أما المياه فهي ترمز بشكل عام إن كان بحراً أو نهراً أو نبعاً إلى السائل الأمنيوتي.
تتطابق الرواية العائلية وتنسجم مع أسطورة البطل، لتتشابه "أنا" الطفل مع بطل الأساطير، فيعبّر البطل عن معاناة داخلية لاواعية لدى الطفل لتأخذ شكلها الواعي من خلال تجسيد البطل وطرح المعاناة إلى الخارج، ولا ننسى أيضاً أن الأسطورة تعكس بشكل عام رغبة الإنفصال عن الأهل المستيقظة في فانتازم الطفل في مراحله الطفولية المتقدمة، لتكون أكثر وضوحاً في الأسطورة ونزعة البطل في الفراق عن أهله. كما نلاحظ أيضاً وفرة الأبطال الذكور في الأساطير وخلوها تقريباً من بطلات أسطورية نسائية، وذلك يعود إلى الثقافة الذكورية السائدة في المجتمعات ليستعير البطل عند كارل يونغ الـ"أنيميوس"(*30)، فيكون بديلاً واعياً للأفعال التي يرغب الفرد انجازها وتحقيقها.

مما لا شك فيه أن البطل الأسطوري تجاوز "الأنا" الفردية ليصبح لاحقاً أداة تعبير عن "أنا" جماعية يمنح لها جميع الصفات العليا التي تفتخر بها جماعتها، فتكون نموذجاً لشخصية قائدة تستطيع مجابهة ماضيها وحاضرها وتتحول إلى رمز حي للمستقبل ومادة خيالية خصبة لنسج تاريخ وانتصارات جماعته.
_______________________________________________________________________________________________

*29-حلمت هذه الحامل بأنها وحيدة في غرفة مستطيلة، لتسمع فجأة صوتا آتيا من داخل الأرض، لكنها لم تأبه به لأنها تذكرت وجود قناة داخل الأرض موصولة بالمياه مباشرة، لتباشر برفع فتحة موجودة في الأسفل، وعند فتحها، رأت كائنا يشبه الفقمة، تروي الحامل.
*30-مصطلح ال"انيميوس" في علم النفس التحليلي للدكتور كارل يونغ يرمز الى أحد "اركيتايب" أي أحد الرموز الأصلية الموجودة في بنية اللاوعي الجماعي وتدل على تمثيل انثوي في خيال الرجل، ويعادل هذا التمثيل عند الأنثي تمثيلا ذكوريا آخر ويسمى بال"انيما" وهو مصطلح لاتيني يعني به الروح. ،هنا لا بد من الاشارة الى أن الروح في كثير من المجتمعات تأخذ صيغة ذكورية، ويعود ذلك الى الثقافات الذكورية اللاغية للأنثى، وسأتطرق إليها من خلال أساطيرها في القسم الثاني.