القسم الأول الحلقة 14: أثر الخيال الطفولي على ولادة أبطال الأساطير - الجزء الأول






ولدت الأساطير من رحم الخيال النشيط المدفوع بشحنات ثورية ضد الواقع المكبل للأفراد، لتمتد جذورها إلى تلك الرغبات الطفولية النابعة من رؤية الطفل للعالم الخارجي وإلى كل ما حوله. ومن هذه التفاعلات النفسية يُخلق البطل ليكون نتاجاً لتصادم مشاعر ورغبات دفينة لدى الطفل. ويمكننا القول: إن التخيلات التي تجتاحنا عبارة عن ثمرة عقلية للتعويض عن خيبات أمل أو قلق نفسي. ومن هذه الخيالات الحرة والمنعتقة من كل الموانع والتابوهات الخارجية، ولدت القصص الخيالية لتأخذ يوماً ما منعطفاً مؤثراً على حياتنا وطريقة تفكيرنا، فنتحول الى وحوش وآلهة وشياطين وأبطال.
لاحظ العديد من اختصاصيي علم النفس-الأنتربولوجي وجود خصائص مشتركة بين أبطال الأساطير المتعددة في العالم والمتباعدة فيما بينها جغرافياً. فوجد أوتو رانك أن هذه الخصائص لها سمات وعناصر تتشابه فيما بينها لتكون قاعدة للأساطير، فالبطل الرئيسي لمعظمها يولد بعد فترات طويلة ناتجة عن عقم للأهل، أو يكون ثمرة لعلاقة جنسية غير مباح بها من قبل المجتمع، أي نستطيع القول: إنه ولد من الممنوع الناشئ عن كبح الرغبة. كما نجد أن لهذه الولادة خصوصية معينة حيث يتم تبشير الأهل بالحمل قبل حدوثه عبر وسيط، كحلم تنبؤي أو وحي(*24).. ليحذر الأهل من وجود مصاعب خارجية يمكنها استهداف وقتل المولود. بالطبع لا يتوقف التشابه بين أغلبية أبطال الأساطير وأبطال الأديان عند هذا الحد بل نجد أنه في معظم الأحيان، وعند الولادة يوضع الطفل في صندوق ليلقى في النهر ليتم إنقاذ المولود المبشّر به من خلال حيوانات تقوم برعايته أو يُتبنى من قبل أسرة متواضعة المستوى لتتكفل برعايته حتى يكتمل نضوجه(*25)، ليعود فيما بعد إلى أهله الأصليين بعد خوضه لمغامرات شتى. طبعاً هنا أود التنويه إلى أثر البيئة والمناخ على الخيال لرسم معالم الأسطورة وملامح بطلها، حيث تنعكس على طبيعة التفكير والسلوكيات عند الجماعات، فالمناخ الجاف والقاسي لا يوفر للفرد إمكانية التنفيس عن رغباته المتناقضة من خلال خلق أساطير ممزوجة بالفانتازم(*26) الفردي، ليسجنه في دائرة الصراع من أجل البقاء والاستمرار. فمن وجهة نظر مدارس علم النفس والأعصاب، اتضح لنا أن معظم السلوكيات عند الإنسان والحيوان ناتجة عن عمليات نفسية مبطنة تتأثر بدورها من خلال البيئة كي تصب في خانة التأقلم مع المحيط الخارجي المتغير حكماً. هذا الشيء يؤثر حتماً على إمكانية النشاط الخيالي وطرح الرغبات الدفينة المتصارعة بين تحقيقها وردعها.
أعطى فيلهلم وندت بعداً نفسياً للأساطير، فوجد أن البطل يعبّر عن مجموعة من رغبات ونزعات إنسانية مطروحة من خلال النشاط الخيالي الذي يصل إلى ذروته بشكل حر وتلقائي عند الطفل. كما أوجدت الدراسات والفحوص السريرية أن العصابيين يعيشون هذه الحالة بشكل عميق حيث تُعزز وتُثبت لديهم الحالة الطفولية بدلاً من نضوجها وانتقالها إلى مراحل أخرى.
وبإلقاء نظرة على التفاعلات والدوافع النفسية لدى الطفل، نجد أن المشاعر العدائية تجاه الأهل تتشارك مع مشاعر الحب والحاجة إليهم لتتصارع فيما بينها، مما يؤدي إلى طرحها عبر القصص الخيالية.
نلاحظ إذن، أن حاجة الطفل للتنفيس عن هذه التفاعلات تترافق بدرجات متفاوتة مع نسبة قمع المجتمعات للأفراد، فكلما اشتدت وتيرة الاستبداد على الفرد ازدادت معها ضرورة كبح الطفل لها، فتتحول الرغبات المقموعة والمكبوتة إلى روايات تجسد واقعاً نفسياً يعيشه الطفل في أعماقه، إضافة إلى ذلك، نجد أن لجوء الفرد لتحويل البطل إلى "أنا" مثالي يخدم جميع النماذج التي تعاني من عراك داخلي من أجل حل جامع لمختلف المشاعر الأنوية، وهكذا يتقمص البطل كل ما هو مثالي لـ "الأنا" (حسب المفهوم المختلف لكل نموذج ثقافي)، ليقوم بدمج الواقع والرغبات عند الأفراد، وذلك من خلال منحهم ثقة أكبر بالذات يقوم من خلالها تجاوز شعور الذنب الدفين.
لاحظ اختصاصي النفس "اوتو رانك"(*27) بعد دراسة تحليلية لمعظم الأساطير، تخلي أبطالها والأبطال-الرسل عن أهاليهم وعن أمهاتهم المرتبطين بهم إلى حد كبير من أجل قضية معينة يدافعون عنها ويؤمنون بها. ومن أجل فهم أكبر للأساطير وللدوافع المحركة عند البطل الدافعة لقطع العلاقات مع أهله، وجب علينا التعمق بدلالتها النفسية للوصول إلى منبعها الأول المرتكز على النشاط الخيالي، فحسب الكثير من الدراسات البحثية التي أجريت من قبل اختصاصيي علم النفس، فقد تأكد وجود نشاط خيالي يتشكل بشكل عفوي عند الطفل يرافقه في مراحل نموه. ولا ننسى أن رغبة الطفل في التحرر من سلطة الأهل تؤدي إلى خلق مشاعر مؤلمة يعاني منها الطفل وتساعده في آن واحد على تحقيق عملية النمو.

هذه النتيجة تأتي بعد مراحل عديدة يتم تجاوزها عند الطفل، فنجد مثلاً أنه في فترة الطفولة المبكرة، يمثل الأهل السلطة الوحيدة والمنبع الأصلي للأطفال، ليكونوا أبطال الواقع لديهم، مما يدفع الطفل نحو رغبة التشبه بأهله كي تصبح أو يصبح مثيلاً لوالدته أو لوالده، إلا أن هذه الرغبة المكثفة تبدأ بالتلاشي نوعاً ماً مع تقدم النمو العقلي للطفل وانخراطه في أجواء اجتماعية مختلفة، كما أن تعرفه على آباء وأمهات الآخرين تساعد الطفل في البدء بعملية مقارنة بين الجميع والتي تتيح له اكتساب حق الشك والتشكيك. هذه العملية تنقل الطفل من حالة اليقين إلى حالة الشك، لتكون سبباً لحالة سخط داخلية مرحلية ومحركاً لدوافع المنافسة بين الجنس الواحد... يتبع 

لقراءة الجزء الثاني
______________________________________________________________________________________________________

*24-تعتبر هذه المكونات أساساً رئيسياً للأساطير والأديان مع اختلاف تركيبتها حسب النموذج الثقافي للجماعة والمتأثرة أيضاً بعملية المناخ والبيئة.
*25-في بعض الأديان أيضاً، نجد وبكثرة عناصر الأسطورة في رواياتها مع اختلاف بعض التفاصيل، فمثلاً، نجد أن قصة موسى تتشابه في الولادة ورعايته إلى حد كبير مع بقية الأساطير، إلا أن بعض العناصر الموجودة في أسطورة موسى خضعت لتغيير بعضها، فمثلاً نرى أن أمه تنتمي إلى الطبقة المتواضعة بدلاً من الثرية كما هو الحال في معظم الأساطير الأخرى، بينما تنتمي العائلة المتبنية إلى الطبقة الارستقراطية المالكة، مع إبقاء الأم الأصلية كمرضعة للطفل بدلاً من حيوانات أليفة أو الأهل غير البيولوجيين. ذات الشيئ نجده تكرر مع ولادة المسيح.
*26-الفانتازم عبارة عن تركيز عقلي أو إيمان غير منطقي يقود في بعض الحالات إلى ممارسة أفعال مفرطة. هذا المصطلح له معنيان في اللغة الفرنسية التي سبقت علم التحليل النفسي وهما: الهلوسات والفانتازية والتي تعبران كلاهما عن نشاط خيالي.
*27-اوتو رانك: أسطورة ولادة البطل صفحة 98-116.