القسم الأول الحلقة 15: أثر الخيال الطفولي على ولادة أبطال الأساطير - الجزء الثاني




لقراءة أثر الخيال الطفولي على ولادة أبطال الأساطير - الجزء الأول


 ومقارنة مع بعض الحالات العصابية، لاحظ الاختصاصيون وجود مشاعر نفور ذات شكل مبطن يشعر بها العصابيون تجاه الأهل والتي لا يبقى منها أي أثر لذكرى واعية، إلا بحالات نادرة، حيث لا يمكن اكتشاف هذه المشاعر إلا من خلال التحليل النفسي.
لقد تم تسمية هذه الحالة وكل توابعها الناتجة عن المشاعر المتصارعة بـ "الرواية العائلية للعصابيين" التي تعود أسبابها لوجود نشاط خيالي خاص يتحكم في جوهر العصاب وفي الذكاء الأعلى سوية. ومقارنة مع مراحل نمو الطفل لاحظ الاختصاصيون وجود هذا النشاط عند الطفل حيث يبدأ بالتظاهر (أي النشاط الخيالي) في ألعاب الطفل ليحول وجهته فيما بعد، أي في مرحلة ما قبل البلوغ، فيبدأ النشاط الخيالي بالاهتمام بالعلاقات العائلية، ليعلن عن نفسه من خلال الأحلام النهارية المرافقة للطفل في مرحلة ما قبل البلوغ وإلى ما بعد هذه المرحلة. وضحت لنا الدراسات التي أجريت على مهام الأحلام النهارية مدى أهميتها وضرورتها لإنجاز الرغبات فهي التي تقوم بتعديل وجودي، ليكون لها هدفين أساسيين وهما: تحقيق رغبة الايروتيكزم(*28) وتحقيق الطموح والذي يختبئ وراءه في معظم الحالات العنصر الأيروتيكي.
فعندما يبدأ الطفل بالتعرف على عائلات أخرى، يباشر عملية المقارنة بين أهالي الآخرين وأهله. وهنا تبدأ رغبة تغيير الأهل بالتشكل، وخصوصاً عند أطفال العائلات الأقل قدراً أو شأناً من الآخرين. ففي هذه المرحلة يحشد الخيال نفسه لتحقيق رغبة التخلص من الأهل واستبدالهم بأهل أكثر شأناً، وهذا ما نراه في الكثير من الأساطير المعتمدة في جوهرها الأساسي على ولادة الأهل الاعتباريين العاكسة لرغبة الطفل باقتناء أهل ذوو مرتبة رفيعة. فغالباً ما تبدأ الأسطورة مع طرفين ينتميان لعائلات نبيلة أو أحد الطرفين ينتسب إلى عائلة أرستقراطية، أما في بعض الأساطير الأخرى، فيتم استبدال العنصر الأرستقراطي بعنصر مقدس كإله مثلاً، ليكون طرفاً لعلاقة عاطفية أو زواج. كما يمكن أن تكون ولادة البطل ناتجة عن اختيار إلهي للأم من أجل تسهيل ولادة الإنسان- الإله. ومن هنا لاحظ اختصاصيو علم النفس وجود تشابه كبير بين هذه الأساطير وبين الرواية العائلية وعناصرها الفانتازمية التي يعيشها الطفل في خيالاته الرحيبة والتي تحقق ذاتها في الأساطير من خلال قلب واقع الطفل.
السؤال المطروح هنا هو: في أي مرحلة يبدأ "الفانتازم" الإعداد بهدف تحقيق احتماليته؟
يبدأ الفانتازم بالإعلان عن نفسه في مرحلة الطفولة الجاهلة لعملية التكاثر والجنس عند الطفل، وتمتد إلى المرحلة الثانية عند تعرفه على العلاقة الجنسية بين أبيه وأمه مع استيعابه بأن الأب يعكس حالة الشك "باتر- سيمبر إنسيرتوس"، أما الأم فهي الحالة الأكيدة "سيرتيسيما"، بينما تخضع "الرواية العائلية" إلى بعض التقييدات، ليقوم الطفل بترفيع أبيه إلى مرتبة عليا. في هذه المرحلة الثانية يبدأ الخيال الأيروتيكي عند الطفل بالاستيقاظ حيث يصطدم (الخيال) بالسلطة العليا الممثلة بالأهل وخصوصاً عند الذين يطبقون بعض العقوبات القاسية على الطفل من أجل ردعه عن تنفيذ الخيال الجنسي، مما يولّد عند الطفل رغبة الإنتقام من الأهل من خلال مساحة الفانتازم.

تعكس خصائص أسطورة البطل مشاعر العنف تجاه الأهل الممزوجة بحنين وعاطفة تجاههم، فبعد دراسات دقيقة لعناصر الأسطورة وما تحويه من فانتازم حالم، نجد أن الطفل يضع بعض ملامح وسمات أهله الحقيقيين بمن استبدلهم، أي أنه لم يلغ الأب الحقيقي بل قام بترفيعه إلى مرتبة أعلى والتي تشير إلى حالة توق إلى الماضي عندما كان الطفل ينظر لأبيه على أنه الأفضل والأقوى ولأمه على أنها أجمل الجميلات والأكثر محبة. ومن هنا وجد اوتو رانك أن الفانتازم ما هو إلا مشاعر أسف على مرحلة الطفولة المبكرة التي عرفت مغالاة في تقدير الأهل... يتبع

لقراءة الجزء الثالث
_____________________________________________________________________________________________
*28- الايروتيكزم وهو مصطلح اغريقي منشق من أحد الآلهة "ايروس" والذي يعبر عن رغبة الحب الممزوجة بالشهوة الجنسية في الثقافة الاغريقية.