لا بد هنا من الإشارة إلى أن معنى القدر عند القدامى يعبر عن مجموعة من مشاعر وأحاسيس ومفاهيم وتقسيمات اجتماعية متضادة، فهو السعادة والتعاسة، والثراء وعدمه، كما هو الحياة والموت والعلاقة ما بين الإنسان وآلهته أو القوى الطبيعية. أما "هيبريس" أي الخطيئة فتعبر عن الذنب المقترف من قبل الفرد عند رفضه المكانة المعطاة له حسب التجزئة القدرية للبشر وتجاوزه الحدود الممنوحة له.
فهل "هيبريس" أو الخطيئة تعني بشكل آخر التمرد على الواقع؟
بعد إلقاء نظرة على أساطير عدة، نرى أن الخطيئة الأولى قد تكررت في الكثير منها والتي تعكس ثقافة جماعية، فكما وجدناها في الطوطم، نجدها عند الإغريق ونجدها أيضاً في سفر التكوين وفي أساس العقيدة المسيحية. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن دلالتها التي تعبر بشكل أو بآخر عن جريمة أولى اقترفت بحق تابو معين أو سلطة عليا أو إنها عبرت عن تمرد تم من قبل الفرد على قواعد وفروض جماعية-أسروية أو بشكل أدق هي الجريمة المقترفة من قبل الطفل تجاه سلطته الأبوية والتي تجاوزته في أبعادها لتكون تعبيراً عن تراجيديا إنسانية كما فسرها فرويد على أنها "التراجيديا الأصلية" التي لا تقتصر على فعلتها فقط، بل هي الممر الإجباري نحو الحضارة. فالجريمة المقترفة من قبل الأبناء تجاه الأب السلطوي الزعيم القادر على اقتناء النساء(*23) تمثل مرحلة أساسية لعملية الانتقال من حياة الطبيعة إلى الثقافة المؤطرة للأفراد ضمن مفاهيم وأعراف جماعية، حيث يخضع الفعل لسلطته العليا "أنانكي" الناشئة عن عقدة ذنب شديدة رسخت في الذاكرة مع تكرار التأنيب الجماعي، لتتضخم عبر الزمن فتأخذ مناح وتآويل أخرى، والتي أدت مع مرور الزمن إلى ضرورة التخلص منها عن طريق طرح الإنسان لتفاعلاته النفسية الى الخارج.
وبما أننا نتكلم عن شعور الذنب، فهذا يعني أننا نتكلم عن شعور نما لدى الإنسان والناتج عن شعوره بخطأ تم اقترافه حسب أخلاق أو أعراف الجماعة المنتمي اليها، أو ربما هو ناتج لشعور داخلي ولد جراء معركة داخلية ما بين إثبات "الأنا" و"الأنا العليا" المتمثلة بالأب والتي انتهت لصالح "الأنا" والتي لم تمر بسلام، لينتج عن هذه المعركة الرابحة للأنا شعوراً بالحرمان من الحاجات النفسية والفيزيولوجية.
بعد قراءتنا لأساطير عدة نجد أن مفهوم الخطيئة متكرر في كثير منها، فمثلاً نجد آثار الخطيئة الأولى في نص "اناكسيماندر" والموضح لنا من خلال تعبيره عن هول الخطيئة المرتكبة من قبل الإنسان والتي تتطلب عقاباً شديداً للتكفير عن جريمته الأولى قائلاً: "إن وحدة العالم قد دمرت من جراء ارتكاب جريمة بشعة نفذت في العهد الأول للإنسان، وكل ما ينتج عنه من عقاب حتى هذه اللحظة، هو من روع وهول هذه الجريمة".
من هنا يمكننا اعتبار مفهوم الخطيئة لدى الإنسان ترافق مع حالة انصياع الفرد للجماعة ضمن أسس وقوانين حرمته من مصالحة مع ذاته ومن أية محاولة فردية أرادت الخروج من حالتها الاجتماعية والثقافية من خلال تكريس مفهوم القسمة والقدر العاكسة لمفهوم الاستسلام وحالة التمييز بين الأفراد للإبقاء على التسلسل الهرمي للجماعات.
ولكن لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن مفهوم الخطيئة والقدر أسهما ببناء الهيكلة الجماعية وتنظيم الأفراد من خلال ترسيخ مبدأي العقاب والمكافأة.
ولا بد من التنويه أن مرحلة تكوين الخطيئة وما نتج عنها من شعور بالذنب كانت مرحلة ضرورية مؤقتة لتطور وعي الإنسان، لحقتها مراحل أخرى في التاريخ كمجيء بعض الأفراد الثائرين (أوما نسميهم بالأبطال أو الرسل أو الأنبياء) على واقعهم القاسي للتخلص من الشعور بالذنب والمعبرين عن رغبة دفينة جماعية للتمرد على مفهوم القدر والقسمة والمساهمة بعملية تغيير للثقافة السائدة آنذاك.
________________________________________________________________________________________________
*23-ركز فرويد على محتوى الثقافات الإنسانية والتي تتجه بشكل مركزي إلى قوانين تمنع العلاقات الجنسية بين الأم وأبنائها، ليقارن العالم البدائي (كما يراه من خلال أسطورة "الجماعة البدائية" والمستوحاة من نظرية "داروين") مع نمو الطفل ومروره بالمراحل النفسية-الجنسية حيث وجد أن عقدة الخصي والتي هي أصل عقدة أوديب نشأت عن منع أبوي لرغبة الابن في أمه، ومن هنا جاء تابو القتل العاكس لمنع الابن بقتل الأب للاستيلاء على أمه تحت ثقل العجز والتوتر جراء الخوف من فقدان الطفل للحماية الأبوية (ضمن مفهوم الثقافة الأبوية التي تعطي ثقلاً لدور الأب في اكتفاء الحاجة الفيزيولوجية والنفسية لنمو الابن). وتحت وطأة مشاعر العجز والحاجة والخوف (وهذا ما يسمى بمبدأ "هيلفلوسيكايت") يتخلى الابن عن رغبته في أمه.