قبل التطرق إلى رمزية الأساطير ومنابعها، أود تسليط الضوء على بعض الدراسات الإكلينيكية التي أكدت تأثير كبح الغرائز البيولوجية على التحكم بالأفراد من خلال تحويل الطاقة الجنسية إلى طاقة جهد تصب في مصلحة الجماعة. وحيثما ترتكز "مصلحة الجماعة" على أساس قمعي يستفيد منه بعض رجال الدين والسلطة، فإن تلك المصلحة تتجاهل حاجة وسلامة الفرد، بل إنها تتجاهل حاجة الجماعة نفسها للإنسجام مع التغيرات الخارجية ومواكبة العصر.
أكدت هذه الدراسات أثر السعادة والاكتفاء لدى الفرد في عملية الإبداع والعطاء، بينما يؤدي قمعها ودفنها في الأعماق إلى حالة من التوتر والقلق الذي ينتج عنهما حالات العنف والعدوانية الشديدة، وذلك بحثاً منها عن تفريغ الشحنات الجنسية التي لم تستطع القيام بعملها واكتفائها. فمن الطبيعي أن يسعى النشاط الحسي لدى الفرد إلى اكتفاء بنيته، وهذا ما يلقب بـ"التوازن البيولوجي" من خلال البحث والعثور على السعادة والفرح واللذة في آن واحد، كما يرى هنري لابوريت.
ففي حال اصطدام الدوافع البيولوجية مع القوانين الخارجية المؤطرة لهذه الدوافع، يبدأ القلق الناتج عن إدراك استحالة تحقيق اللذة المنشودة لاكتفاء الغرائز، مما يدفع الفرد إلى الهروب من القلق من خلال مشاعر العدوانية تجاه أي محرض يمكنه مس غرائزه المكبوتة. وبذلك، نستطيع القول: إن العدوانية والتعنيف عبارة عن محاولة لتخفيف القلق النفسي الناتج عن صراعات النشاطات العصبية المتمركزة على مستويات مختلفة في نظامنا البيولوجي والتي يصعب على الفرد المقموع إشباعها.
لاحظ فيلهلم ريتش أن الفرد القابع تحت ضغط قوانين وأسس جماعية تثبط مبدأ "اللذة"، وترفض الحياة والجنس، تثقل على الفرد شعوراً من "اللذة القلقة" ليثير لديه الخوف من المتعة. ويؤسس هذا الشعور من اللذة القلقة قاعدة رئيسية للنظم الإستبدادية على كافة المستويات، كما يساهم في تحضير أرضية مناسبة لدى الفرد لقبولها، وإخضاعه لجميع الأيديولوجيات القائمة على رفض الحياة. مما يؤدي إلى نشوء تضخم مشاعر الخوف لدى الفرد من العيش بشكل مستقل وحر. فسرعان ما يصاب بأعراض كثيرة تحرمه من الانسجام مع ذاته، ليقوم بتبديل حاجته للاكتفاء الجنسي بحاجة ماسة للهيمنة والهروب من المسؤولية.
إن هذه القوانين الكابحة تخلق صدامات عدة وخصوصاً في المجتمعات الذكورية. فتتعاكس الثقافة مع الطبيعة، والغريزة مع أخلاق الجماعة، والممارسة الجنسية مع تحقيق الذات، ليتكون لدى هذه المجتمعات أفراد غير متناغمين لا مع ذواتهم ولا مع الآخرين ولا مع الطبيعة. وعلينا ألا ننسى الأثر الإيجابي للعملية الجنسية على سلامة النفس، فهي عملية بيولوجية هدفها تحقيق اللذة والتوازن النفسي، كما أنها تساهم بشكل كبير في عملية الانتاج الذاتي(*31).
إن الرغبة في العنف والهدم، نجدها عند ريتش وعند بعض اختصاصيي السايكولوجيا والسيكسولوجيا، ناشئة عن رفض لغريزة الجنس ذات الطبيعة المسالمة، ليكون العنف عبارة عن وسيلة لتحقيق الرغبات الأساسية، في حال عدم الحصول عليها بطريقة سليمة. وهكذا تتحول هذه اللذة المسالمة إلى لذة سادية والتي هي خليط من دوافع جنسية ودوافع هادمة ثانوية، فهي إذاً حالة بيولوجية متحولة تحت تأثير ثقافة البيئة.
لقد أوضحت الدراسات الإكلينيكية لنا أيضاً الجانب الآخر للسادية الدفاعي، والناتج عن قلق عميق يؤدي إلى تأجيجها على الصعيدين السلوكي والجنسي.
أوضح لنا فيلهلم ريتش من خلال معايناته السريرية العلاقة بين الكبح النفسي الذي استعرضه فرويد مطولاً وبين علاقة الجسد المكبوح، ليتوصل ريتش إلى مفهوم خاص يسمى "التدرع النفسي" الناشئ عنه تدرع عضلي.
وهو ما يعني أن المفهوم القمعي يجتذب الأفراد المؤهلين جينياً، ليقوم بتأجيج السلوكيات السادية وتفعيلها من خلال الثقافة العامة. وهذا ما يُلقّب بـ "علاقة السوما" أي الجسد والنفس حيث استطاعت اختصاصية النفس جيردا بويسن (*32) التعمق أكثر في هذه النظريات، لتقوم على تطويرها وخلق فرع جديد وهو "علم النفس البوديناميكي"(*33) المتخصص بالعلاجات البيوديناميكية القائمة على علاج الجسد والعقل في آن واحد.
إن عدم ظهور الحاجة الجنسية في الوعي بسبب المانع الأخلاقي، يدفع الإثارة لتقوم بالارتباط بأفكار أخرى غير خاضعة للرقابة الثقافية، مما يؤدي إلى انحراف هذه الإثارة عن مسارها الطبيعي، فتقوم بأخذ أشكال معينة من العصاب(*34)، وعندئذ يبدأ الأنا العصابي محاولاته للتخلص من الضغوطات الناتجة عن هذه الحالة عن طريق أفعال إندفاعية مبالغ بها.
توصلت الفحوص السريرية إلى أثر تربية الطفل بالحالة العصابية فيما بعد. فقد أكدت المعاينات أسباب هذه الحالة لدى العصابيين المصابين بالوسواس، فلوحظ أن معظمهم نشأ وترعرع في محيط خارجي ينبذ الجنس (إن كان من خلال الثقافة الاجتماعية أو العائلة الواحدة). وبعد التدقيق أكثر في سلوكيات هؤلاء في فترات ما قبل البلوغ حيث اتسمت بأفعال جنسية مبكرة أو بمحاولات جنسية إغرائية، إلا أنها جوبهت في ذات الوقت برد عنيف ومفاجئ من قبل المحيط، والذي أدى إلى تفاقم إحساس الطفل بالذنب... يتبع
لقراءة الجزء الثاني
لقراءة الجزء الثاني
__________________________________________________________________________________________
*31-كتاب وظيفة الـ"الاورغاستيك" لاختصاصي النفس فيلهلم ريتش.
*32-استطاعت جيردا بويسن تطوير فكرة "تدرع الأنسجة" التي قدمها ريتش لتكتشف قدرة الغرائز على ضبط العواطف حيث تأخذ بعين الاعتبار الإنسان ككل من جسد وطاقة وعقل.
*33-يقوم علم النفسي البيوديناميكي على أسس علاجية جسدية ونفسية. تقوم هذه المدرسة، وخصوصاً مؤسستها بويسون، على تعريف المشكلة، إذ تعتبر ان كل فرد يملك نواة سليمة مرتكزة على الشخصية الأساسية وتتمتع بمزيج من المرونة وتحديد الأمور، والقدرة على الإبداع والحماية، فهذه النواة السليمة لها القدرة على تنظيم وضبط ذاتها، فهي التي تسمح للفرد بالوصول إلى الراحة المستقلة، فالشخصية الأولية عبارة عن نواة سليمة منسجمة مع ذاتها ومع محيطها. أما الشخصية المتفرعة فتأتي نتيجة تسوية معينة تنفذها الشخصية الأولية محاولة منها دمج التناقضات الآتية من المحيط والتي تمارس على الفرد تحت شكل أعراف وأخلاق... وينتج عنها انسداد وثبات في الأنظمة؛ كتشنج العقل والعواطف الممنوعة والتدرع الفيزيولوجي. مما يؤدي إلى ضياع أي اتصال مع النواة السليمة والمتمثل بالشخصية الأولية للفرد، ليجد الفرد نفسه في طريق مسدود لا يمتلك مخرجاً واحداً للخروج من هذه الحالة مما يؤثر عليه نفسياً، ومن أجل التخلص من آلام هذه الحالة يسعى الجسد إلى منع أي إحساس، وذلك للتأقلم مع المحيط، الأمر الذي تنشأ عنه اضطرابات فيزيولوجية.
*34-العصاب هو اضطراب نفسي يختلف عن الذهان، والفرق بينهما ان مصابي العصاب يتمتعون بوعي لواقعهم وآلامهم، فمن أشكاله؛ القلق الحزين، الاكتئاب، الغضب...الخ ومن نتائجه؛ العدوانية والتبعية...الخ.