لقراءة الجنس والسلامة النفسية - الجزء الأول
من هنا لاحظ ريتش من خلال علاجه لمرضاه، أن كل محاولة تفريغ للضغط الجنسي من خلال اكتفاء الأعضاء التناسلية، ساهمت بشكل فاعل في تخفيض إمكانية استيلاء الدوافع الباتولوجية على المريض. ليؤكد لنا دور الركود الجنسي في عملية تزايد الاندفاعات الجنسية المنحرفة عن طريقها الطبيعي.
إذن، فإن الركود الجنسي هو نتيجة لاضطراب في وظيفة "الأورغاستيك". وكما أوضحت الدراسات فإن كل تجربة نفسية لها أثرها على التغييرات الفيزيولوجية التي تمس عضواً ما. وهذا ما يسمى في علم النفس بـ "التثبيت الفيزيولوجي من خلال الأثر النفسي"(*35).
بعد إجراء بعض الفحوص السريرية على بعض المصابين باضطرابات نفسية، استدلت الدراسات على وجود حالة من فانتازما تنتاب الفرد، تشبه كثيراً تلك الأفكار والرغبات اللاواعية لدى الطفل، كممارسة العلاقة الجنسية مع أفراد العائلة الواحدة، ورغبة الطفل بأمه الممزوج بشعور الخوف الشديد، وذلك رغبة منه بالحفاظ على سلامة عضوه التناسلي. فنجد أن هذه الرغبات تطفو على السطح في مراحل لاحقة وتحت ظروف معينة، لتعبّر بذلك عن ذاتها من خلال أعراض عصابية- ذهانية تكون مصحوبة بطاقة جنسية عالية كانت قد تطورت عن حالة الكبح الجنسي المشروط من قبل الخارج. الأمر الذي ينشأ عنه ركود جنسي، والذي يسبب بدوره زيادة من المنع وإنعاش الأفكار والرغبات الطفولية، فتقوم باحتلال مكان الأفكار الطبيعية.
وفي دراسات أخرى، عثرت على وجود بعض الإصابات العصابية الناشئة في عمر متقدم، أي عند بلوغ الطفل، والتي أتت كنتيجة لتجربة جنسية معينة في الحياة البالغة، لتكون المسبب الرئيسي للركود الجنسي. ليلاحظ ريتش أن هذا الركود يستطيع بدوره أن يقوم، من جديد، بتنشيط رغبة الجنس الممنوعة مع أفراد العائلة الواحدة المرافقة لحالة القلق الجنسي.
مما لا شك فيه أن هذه الرغبات الطفولية وتحت ضغط الثقافة الخارجية الكابحة لكل عمل جنسي يمكنها عدم الإعلان عن ذاتها، كما هو الحال عند العصابيين. لكننا نجدها، بشكل أو بآخر، تتجلى بوضوح في سلوكيات أفراد ومجتمعات الثقافة الذكورية المفرطة المتمثلة بسلطة الأب، ليتوافق هذا الوضع مع المفاهيم الدينية التي تدفع الفرد بعيداً عن رغباته الجنسية، فتنظمها ضمن قوانين جامدة خالية من الحياة، وتضعف بذلك نشوة التمتع في الحياة عند الأفراد تدريجياً، فنرى كيف تتحول العملية الجنسية إلى عملية فكرية قائمة على غزو وتغلغل ذكوري في الأنثى، وتعكس بهذا الشكل انتصارات واهية يقوم بها الذكر لإثبات ذكورية ناقصة، وذلك بسبب تراجع الحالة النفسية والانتكاس إلى مرحلة الطفولة، حيث يتم إنعاش الإحساس القديم بذكورية ناقصة أمام الأب وعقدة الخصي الناتجة عن الثقافة الذكورية.
أكد لنا الأنتربولوجي برونيسلاف مالينوفسكي من خلال أبحاثه التي قام بها بعد دراسته لقبائل جزر "تروبريان" التابعة لنظام النسب للأم(*36)، أن عقدة "أوديب" هي ناتج اجتماعي وليس بيولوجي، حيث يتمتع أفراد قبائل هذه الجزر بحرية جنسية طبيعية وبتنظيم عال ولديهم القدرة على العمل من دون شكوى. لهذا نستطيع القول: إن عقدة أوديب وتشعباتها ناتجة عن مفهوم سلطوي للأب، والتي تتفرع منها سلطة رجال الدين والسياسة وفكرة القائد الواحد.
فكلما ازدادت السلطة الأبوية، تفاقمت معها الثقافة الذكورية واستبداديتها بفروعها الثلاث (الأسرة، المجتمع، الدين).
فإذا عدنا إلى مسألة اكتفاء الرغبات الجنسية، فسوف نجد أنه من الطبيعي أن تُختزل الأساسيات بمفهومها الأولي في عملية الإشباع. إلا أنها في مرحلة لاحقة، تبدأ عملية الانتقاء بشكل أوسع بحثاً منها للوصول إلى مشاعر فائقة من التلذذ والتي تحتاج إلى قدرة انسجام مع الذات من دون أية موانع، والذي يحتاج إلى عملية وعي أكبر يقوم بها الأفراد للتخلص من الشوائب الثقافية القمعية.
وهنا أود التنويه إلى ما قاله ريتش: "إن الدافع الجنسي ليس دافعاً يبحث عن اللذة، لأنه محرك اللذة الباحثة عن تحقيق اكتفائها". وقمعها هو تأجيج الصراع الداخلي لدى الفرد.
وجد فرينكزي أن تراجع اكتفاء بعض الرغبات الجنسية يتم تحت كم من الضغوطات الممارسة على الأفراد من قبل ثقافة المحيط، لتدفعهم إلى نبذ اللذة كي تصب في مفهوم الاستبقاء (أي الحفاظ على الطاقة الجنسية)، مما ينعكس وبشكل مباشر على عملية السيلان.
ومن هنا نستطيع تأكيد ما قاله ريتش على أن قمة النشوة تتلخص في القدرة على تدفق الطاقة البيولوجية المختزنة من دون رادع أو مانع أخلاقي، فذروة النشوة تكمن في تفريغ جميع المحتويات بشكل كامل، والموجودة في التهيجات الجنسية، ليساهم الانسجام والرغبة المتبادلة بين طرفين في الحصول على النشوة المبتغاة لكليهما.
أما في الحالات القامعة لرغبات الطاقة الجنسية، تسلك هذه الطاقة ممراً خاطئاً للتفريغ، ليؤدي إلى تراجع الفرد إلى المراحل السابقة بشكل لاواعي وغرقه في خيالات واسعة.
_________________________________________________________________________________________
*35-يسمى بعلم البرمجة العصبية اللغوية بanchoring وهي عملية آلية لاواعية تجمع ما بين ردة فعل داخلية مع محرض خارجي، وبفضل الذاكرة يسترجع الفرد الإحساس الذي عايشه في الماضي من خلال المحرض.
*36-استخدمت مفهوم نظام النسب للأم بدلا من النظام الأمومي، وذلك لعدم وجود أي اثبات انتربولوجي بوجود مجتمعات أمومية ذات سيادة انثوية قديما أو حديثا، فقد نبه معظم الانتربولوجيين لهذا اللغط المستخدم بين الأكثرية. وكما شرحت الانتربولوجية فرانسواز ايريتير بوجود خلط واسع بين النظام الأمومي الدي هو بالأصل عبارة عن اسطورة ولا تمت بأية علاقة للتاريخ الواقعي وبين نظام النسب التابع للأم، أو بالأحرى الى عائلة نسب الأم، حيث يتمتع الرجال بكامل سلطتهم على جماعاتهم ويقوم الأخوال بتربية الأطفال بدلا من أبائهم، ليتم نقل الممتلكات والوظائف للأطفال عن طريق الخال.