لا بد لنا، ومن أجل فهم أكبر لمنابع الأساطير، الاطلاع على الأبحاث والدراسات الخاصة بالأنتربولوجيا النفسية. فقد توصل الكثير من اختصاصيي الأنتربولوجيا النفسية إلى ضرورة تشخيص الحالة الغريزية الجنسية عند الإنسان، لنعثر على العنصر الأساسي لجميع المعتقدات التي تركزت على الرغبات والأعضاء التناسلية.
لاحظ جيزا روهيم أن العلاقة الجنسية مثلت الفكرة اللاواعية المؤسسة للروحانيات، فهي المادة المركزة للروح. وحسب تفسيره لأساطير شتى، اتضح له وجود علاقة مترابطة ما بين النطاف والروح، فعملية قذف النطاف تهدد العضو الذكري بالموت، وهذا ما نراه واضحاً في كثير من الأساطير التي شكلت الأرضية الخصبة لمعتقدات بعض القبائل، والتي تسربت إلى الأفراد بشكل لاواعي من خلال الوعاء الثقافي. مما دفع الكثير من اختصاصيي علم النفس والأنتربولوجيا إلى التعمق في أساطير هذه القبائل بشكل أوسع وأعمق.
فقد رأت الأنتربولوجية فرانسواز ايريتيه أن ثنائية الأمور: الموت والحياة، البرد والحر، الأنثى والذكر، هي أساس الهيكلة الفكرية للإنسان. فمنذ فجر الإنسانية، ربط القدماء العلاقة بين الدم والحياة، ليدل ضياعه على الموت بينما يدل الحفاظ عليه على الحياة. وبما أن الأنثى تفقد بعضاً من دمها في كل دورة شهرية، فقد لصقت بها صفة البرد، لتكون صفة سلبية ترتبط بالأنثى والموت في آن واحد.
نلاحظ أن معظم الأساطير قد تشابهت بالرغم من بعدها الجغرافي، لتكون منابعها مرتكزة على أساس الخطيئة والعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، فنجد تشابه الأسطورة الأولى لقبيلة "ماوري" مع أسطورة سفر التكوين في الديانات الابراهيمية إلى حد ما، والمرتكزة في أسسها الأولى على العلاقة الجنسية والحية ومن ثم الخطيئة. ففي أسطورة قبيلة "ماوري" تتحول هيني- اتا- ويرا ابنة هيني- اهون" و"تاني" إلى "هيني- نوي-تي- بو" إلهة الليل والموت، ويعود ذلك لاكتشافها العلاقة الجنسية بينها وبين والدها.
تبدأ الأسطورة مع "رانجي- نوي" الأب السماوي و"بابا-توانوكو" الأم الأرض، وهم الأهل الأوائل لجميع الذكور الأولاد لقبيلة ماوري ، فكان "تان- ماهوتا" وهو أحد الأبناء قد طلب من أمه "بابا" أن تعلمه كيف تخلق الأنثى لمواساة وحدته، فيخلق امرأته بعد استخراجها من التراب الأحمر وينفخ فيها الحياة، وينجبا فيما بعد هيني- اتا- ويرا، لتصبح ابنته وامرأته لاحقاً. تبدأ التراجيديا عند اكتشاف "هيني- اتا- ويرا" علاقة الأبوة التي تربطها برجلها "تاني"، مما يؤدي إلى لجوئها للهرب إلى ما وراء الحياة وتتحول بذلك إلى هيني- نوي- تي- بو إلهة الموت. وفي ذات يوم، أراد البطل الأسطوري" ماوي" منح الأبدية لأفراد قبيلة "ماوري"، ليقوم بالتسلل إلى داخل إلهة الموت "هيني- نوي- تي- بو"، فينتهز فرصة نومها، كي يدخل بين ساقيها بهدف الخروج من فمها والحصول على أبدية البشر، إلا أن "هيني- نوي- تي- بو" استيقظت حين ولوجه في داخلها، لتسحقه في مهبلها. نلاحظ هنا أن الموت أصاب "ماوي" عند تزاوجه مع سلفه "هيني- نوي- تي- بو"، ليفسر لنا روهيم هذه الرمزية التي تدل في معتقدات هذه القبائل على أن القضيب يمثل الحياة عند انتصابه بينما تدل عملية القذف على الموت. أما في سفر التكوين فقد اقترن الموت بفكرة العصيان وارتكاب خطيئة بشرية نتجت عن أكل فاكهة ممنوعة (لا ننسى أن النبات والحيوان يرمزان إلى الأعضاء والعملية الجنسية في كثير من المعتقدات)، أي أن الموت كان نتيجة لفعلٍ ممارسٍ ممنوعٍ اقترفه الإنسان.
بعد الاطلاع على دراسات فيرينكزي(*37) لحالات الجماع عند الكائنات الحية توصل إلى أن حالة القذف عند الذكر مترافقة مع حالة الانفصال عن الجسد الأنثوي، والتي تعبر عن تكرار لعملية الولادة من جديد، لتعد من المحفزات الأولى للإنسان من أجل خلق جنته المفقودة. فالجنة تمثل في سفر التكوين الحالة التي سبقت طرد الإنسان منها والتي تعكس حالة مكوث الجنين في رحم أمه. بينما تعكس عملية الطرد منها عملية الانفصال عن الأم أي الولادة. ومن بين النقاط التي شرحها فيرينكزي عملية وضع النظام العضوي كاملاً تحت تصرف الأعضاء التناسلية، ليتماثل نظامنا العضوي مع العضو المنفذ، ويتحد "الأنا" مع العضو التناسلي ليصبحا واحداً أثناء الجماع. أما اوتو رانك فقد اعتبر أن عقدة (فقدان العضو) تعود إلى لحظات الولادة، أي لحظة انفصال الأم عن الطفل من ناحية (انتوجينيز) ، ليبني فيرينكزي فرضيته على أن مبدأ المجامعة على صعيد (انتوجينيز)(*38)، عبارة عن محاولة لتحرير الضغوطات المؤلمة الناتجة عن لحظة الولادة، مع اكتفاء الإثارة والعودة إلى المشاعر الدافئة لما قبل الولادة...يتبع
لقراءة الجزء الثاني
__________________________________________________________لقراءة الجزء الثاني
*37-كتاب الجنس في التحليل النفسي لـ"ساندور فيرينكزي".
*38-الأنتوجينيز عبارة عن دراسة الكائن الحي منذ بداية نشأته في الرحم.