لقراءة متلازمة الموت والحياة والأعضاء التناسلية - الجزء الأول
عودة إلى أبحاث روهيم في مجال علم النفس الأنتربولوجي، فقد لاحظ وجود علاقة ما بين الموت والحياة وبين الأعضاء التناسلية. وتتميز هذه العلاقة بوضوح معالمها في كثير من الأساطير حيث وجد ترادف الروح للنطاف. وإذا قمنا بتسليط الضوء على بعض الدراسات العصبية التي أجراها فيرينكزي نجد أن "الأنا" يضع نفسه ليتطابق مع العضو الذكري والإفرازات الجنسية. فبما أن الفراق مع العضو الجنسي الآخر يذكرنا بلحظة الولادة والخوف من هذه اللحظة التي ترمز عند الذكر إلى انفصال عضوه عن جسده، والآتية من لحظة الولادة وانفصال الجنين عن أمه، نجد أن الذكر يستطيع تخيل العودة إلى الرحم من خلال العضو الأنثوي. ربما تفتح لنا هذه الدراسات الباب لفهم ارتباط مفهوم الروح بالذكر في معظم الثقافات القديمة حيث إنها قامت بإلغاء مبدأ الروح للأنثى والتركيز على ربط النطاف مع الروح لدى الذكر حكراً. ليعبر النطاف، بشكل أو بآخر، عن الأنا الثانية التي ترمز إلى حياة ما بعد الموت أي بمعنى آخر، تعد الأنا الثانية هي الروح. وهذا ما نراه في معتقدات "هوس" حيث يمتلك الإنسان روحين؛ روح للحياة وروح لما بعد الحياة، فتودع روح الموت الجثمان عند دفنه وتغادره إلى عالم آخر.
نلاحظ أن هذا المفهوم يوضح لنا عملية فصل الروح عن الجسد، والتي تتشابه كثيراً مع عملية التزاوج التي تنتهي بمغادرة النطاف العاكسة في الثقافات الذكورية خشية الطفل من أباه من قطع عضوه الذكري أو خصيه لرغبته الشديدة في أمه.
لم يقتصر تلازم الحياة والنطاف سوياً على جماعة معينة، إذ نجده واضحاً في نص من نصوص "ايتاريا اوبانيشاد"(*39) حيث يعتبر الـ "اتمان" (وتعني الذات أو الروح) محتوى النطاف. أما في معتقدات قبائل "مورهيد" و"واسي كوسا" في بابوا الغربية (إحدى مقاطعات أندونيسيا)، فإن عنصر الحياة اللامرئي والمحرك الرئيسي للإنسان مرتبط بفكرة دخول النطاف إلى الرحم من خلال المهبل لتكوين الجنين والذي يدعى بـ"بيرمبير"(هو النطاف ذاته)(*40)، ومسببه كائن يشبه "تومبابوير" يسكن المياه تمهيداً منه لتهيئة فرص الحمل للمرأة المتزوجة حيث يحصل الحمل عند المرأة عند وجوده في المياه معها، وذلك لا يتم إلا في حال ممارسة المرأة لفعل جنسي كي يسهل مرور الـ"بيرمبير".
أما بالنسبة لعلاقة الموت بالأنثى، فنجد ملامحها واضحة في ذات الأسطورة لقبيلة "ماوري"، عندما قالت "بابا" أم الأرض لـ "رانجي" الأب السماوي "سأسترجع جميع أحفادي وسلالتي في الموت". كما نجد في معتقدات "كارين"(*41) العلاقة المترابطة بين الأرض والأنثى وفقدان العضو الذكري في مفهومهم للأرض والسماء المقترنة بذكورية أفرادها حيث يتطلب من أشباح موتاهم عبور جسر من سيف حاد يصل ما بين الأرض والسماء بهدف الوصول إلى قبورهم، فمن يستطيع اجتيازه يصبح رجلاً، ومن يعجز عن المرور فوقه حتى وصوله إلى السماء، يتساقط من عليه ويتحول إلى إمرأة على الأرض، وبمعنى آخر، نجد أن نساء القبيلة عبارة عن رجال مذنبين تم عقابهم بحرمانهم من العضو الذكوري. وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود هذا الجسر في كثير من المعتقدات. ففي المعتقدات الإسلامية والتي تستمد ينابيعها من الديانات السابقة والأساطير القديمة، كما هو حال جميع الديانات، يعتبر "الصراط جسراً على جهنم في الطريق إلى الجنة ويرده كل بر وفاجر، فالأبرار يمرون عليه بسرعة ويصلون إلى النعم الإلهية، أما الفجار فتزل أقدامهم ويتردون في نار جهنم" وفي حديث آخر "ان على جهنم جسراً أدق من الشعر وأحد من السيف"، والإنسان العاجز على اجتياز هذا الجسر يحرم من النعم الإلهية القائمة على مبدأ الليبيدو الجنسي.
فإذا عدنا إلى تلك العلاقة الثنائية ما بين الموت والحياة وما بين الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية، نجد على سبيل المثال عند بعض القبائل البولينيزية، تقاليد سحرية، كتلاوة بعض الأقوال السحرية مع وضع اليدين على الأعضاء التناسلية بهدف استبعاد أي شعوذة يمكنها التأثير على أفرادها، ليدل التاوهيتو عند "الماوري" على الاسم الديني للقضيب، فبفضله يتم درء مخاطر الشعوذة للاحتفاظ بالحياة(*42).
لهذا نجد أن الكثير من القبائل تمنع عملية التزاوج بين الذكر والأنثى في حالة الحرب واعتبارها حدثاً سلبياً يبشر بخسارة أمام العدو، كما نجد أن الكثير من الممارسات السحرية عند بعض قبائل الهنود الحمر تحاول استرجاع المني، اعتقاداً منهم بوجود روح الذكر في نطافه. ومن الواضح أنه تم ربط عملية القذف مع تلقي الأنثى له، ليتم ربط العضو التناسلي الأنثوي مع مفهوم الموت، والذي ساهم، ربما، في تكريس المفهوم القهري الذي يُمارس على النساء ليلقي على عاتقهن مسؤولية الشر والعذاب والذي نراه في كثير من الأساطير الدينية كمسؤولية حواء في تحريض آدم على ارتكاب المعصية.
نلاحظ أيضاً وجود عامل الألم في بعض المعتقدات المرتكزة على مبدأ العقاب والمكافأة من خلال الجنة والنار وقدرة الإنسان على تحمل الأوجاع في سبيل الحصول على أبدية الراحة، كما هو واضح في الديانة المسيحية. فعملية صلب المسيح لها بعد نفسي. فهي تشكل نواة المفهوم المسيحي لدى معتنقيه، والمرتكزة على مبدأ ضرورة قبول الواقع القاسي من أجل الحصول على المكافأة الكبرى وهي جنة الخلود.
ومما لا شك فيه أن سمات الجنة تختلف بين دين وآخر، فمنها ما اتسم بالراحة والهدوء، وربما للإشارة إلى حالة وجود الجنين في رحم أمه، عاكسة بذلك حالة العدم التي سبقت حالة التزاوج بين الأرض والسماء في كثير من الأساطير. ولتعكس الجنة في بعض الأديان الأخرى عن اكتفاء الرغبات المقموعة للفرد من قبل جماعته من خلال إعطائه جنة تداعب خيالاته لتهبه ما حرمته إياه على الأرض.
*39-"اوبانيشاد" والتي تعني حرفيا الجلوس عند أقدام المعلم لسماع تعاليمه. ترتبط نصوص "اوبانيشاد" ب"سروتي" والتي تعني حرفيا النص المسموع، أي انها تعبر عن قدرة الإدراك الحدسي في سماع الداخل. أما "ايتاريا اوبانيشاد" فهي نصوص هندوسية مقسمة الى ثلاثة فصول فيها 33 آية وتحوي أيضا على الفصل الرابع والخامس والسادس للكتاب الثاني من نسخة "ايتاريا ارانياكا".
*40-كتاب الروحانيات والسحر والملك الإله لجيزا روهيم، صفحة 46.
*41-كارين اوكارينغر، ،هم جماعة إثنية تنتمي الى التبيتو-بيرمان ويعيش قسما منهم في برمانيا والآحر في تايلاند.
*42-كتاب الروحانيات والسحر والملك الإله لجيزا روهيم تحت عنوان "لحظة الموت والروح".