لقراءة أثر مفهوم الطوطم في نشأة الأديان - الجزء الأول وأثر مفهوم الطوطم في نشأة الأديان - الجزء الثاني
وهنا نعود لحاجة الإنسان إلى مبدأ الإيمان مهما اختلفت توجهاته ومعتقداته. فالإيمان لا يقتصر على غيبيات أو روحانيات، إذ إنه بالإمكان أن يختبئ تحت شعائر دينية أو طقوس أو إله معين، أو أن يكون أحياناً عبارة عن قوة داخلية متجسدة لإرادة ذاتية يعتقد بها الإنسان، ليستمد منها طاقة تمنحه الإصرار والعزيمة. فمبدأ الإيمان مهما اختلفت أشكاله يقوم على ترسيخ مبدأ الثقة لدى الإنسان، والتي بدورها تمده حماساً وقوة للاستمرار والسعي نحو النجاح النسبي والمختلف بمعناه حسب الإدراك المتفاوت للإنسان.
مما لا شك فيه أن الإنسان البدائي استطاع أن يصل إلى هذه المفاهيم بشكلٍ لاواعٍ وغير واضح المعالم. لأن الملاحظات والمشاهدات والتجارب تترسخ أولاً في عقولنا بشكل غير واع. فمنها تنشأ العادات والسلوكيات التي يطلق عليها علم النفس بالسلوكيات والعادات الكامنة، ليمارسها الأفراد بشكل ضمني، و تكون بذلك نتاج لاواعي صادر عن الوعاء الثقافي المختلف لكل جماعة. فإذا نظرنا إلى الأفعال الصادرة من قبل الأفراد نلاحظ أنه يتم تحديدها من خلال الأفكار والمشاعر والرغبات البعيدة عن الوعي والمرتبطة بالوعاء الثقافي للجماعة، والناشئ عنها عمليات عقلية يمكنها أن تتسم بالصراع بين بعضها البعض، لتقود إلى تسوية أو اتفاق بين الدوافع المتنافسة.
فما يميز بين اللاوعي والوعي هو ذاك الإدراك والتحليل الذي يربط بين جميع التمثيلات العقلية الموجودة في الذاكرة الطويلة ليقوم الفرد بفهمها بشكل واع وربطها مع بعضها البعض. من هنا يتم ربط سلوكيات وعادات بحوادث ومشاهدات أثرت في الإنسان وتم اختزانها في ذاكرته. أي بعبارة مبسطة، نستطيع القول: إن الوعي هو إمكانية ربط الماضي بالحاضر بشكل تحليلي، فهو نفسه الذي يجعلنا أكثر فهماً أو إدراكاً لجمل وعبارات وأمثال اختبأت خلفها تجارب فردية. لهذا نستطيع القول: إن الوعي هو من يقودنا إلى الإحساس والشعور بتلك التجارب المصاغة على شكل كلمات.
من هنا، نعود مرة أخرى إلى الطوطم الفردي والجماعي، ونبقى مع دوركهيم الذي استطاع أن يحدد الفوارق فيما بينهما، فاعتبر أن الطوطم الجماعي يشبه إلى حد كبير بما نسميه حالياً، "قيد نفوس الطفل" حيث يتم توارثه من الأهل عند ولادته. أما الطوطم الفردي فاعتبره حالة انتقالية تغييرية لا تكتمل إلا بعد كمٍ لا بأس به من ممارسات لطقوس معينة أثناء حياة الفرد حيث لا يمكنها الاكتمال (أي الحالة الانتقالية) إلا تحت إشراف ساحر معين أو شخصيات لها قدرات خاصة، والتي تساعد في إنهاء حالة التحول والتغيير عند الفرد.
نجد أن بعض القبائل الطوطمية التي تتبع نظام الطوطم الفردي تمنع أفرادها حديثي التعلم أو ذوي الخبرات الدينية الضئيلة في تحديد طوطمها قبل أن يعلن ساحر القبيلة عن موافقته والسماح لهؤلاء الأفراد في عملية الاختيار.
هنا سأتوقف قليلاً للتذكير ببعض التشابه بين هذه القبائل وبين بعض الطوائف الدينية المشرقية حيث ينتسب الفرد إلى طائفته نظرياً عند ولادته، بينما يمنع من معرفة أسرار وطقوس طائفته في حال عدم تلقيه دروساً من رجال دين طائفته، كما يستوجب عليه ممارسة طقوس معينة أثناء تلقيه التعاليم التي يشرف عليها رجل الدين. أي أن الدين لا يكتمل إلا بممارسة فعلية لتعاليمه، وهذا أيضاً ما نراه عند معظم الأديان المرتكزة على طقوس شتى من عبادات وممارسات عدة لشعائرها. إذ لا يكتمل دين الفرد إلا بعد إتمام واجباته تجاهها بشكل كامل، مما يؤثر على مفهوم ثقافة الجماعة ويصبح الدين المؤشر الأول للنضوج العقلي للإنسان حيث تقوم الجماعة بتهميش الأفراد ذوي الخبرات الدينية المنعدمة أو الضئيلة، فلا يتم استحقاق الفرد لحقوقه إلا في حال رضوخه لتعاليم الجماعة إن كانت دينية أو سحرية. وبمعنى آخر، نجد أن هدف الدين أو أي نظام آخر هو بالأساس هدف اجتماعي يتمثل بإخضاع الفرد لقوانين الجماعة وتأطيره داخل كيونة واحدة غير متغيرة.
ولدى العودة إلى القبائل الطوطمية وكيفية توزيع الأنواع الحية عليها، نجد أن كل عشيرة لها أحقية بتملك عدد معين ومحدد من الأنواع الحية والتي لا يمكن لعشيرة أخرى أن تختارها من خلال وفرة لقائمة معينة تحتوي على كائنات حية تسمح لكل عشيرة باقتنائها، فلا يسمح لأي عشيرة أن تتجاوز هذه القائمة.
لقد أوضحت لنا الدراسات الأنتربولوجية وجود علاقة ما تربط الطوطم الفردي بالفرد، لتأخذ هذه العلاقة تارة سمة الوضوح، وتارة أخرى سمة الغموض، لهذا نراها مرتدية، في بعض الأحيان الأخرى، ثوب الضبابية لتكون مبطنة المعاني والملامح.
ولكن ما هي نوعية العلاقة بين أفراد عشائر القبيلة الواحدة الخاضعة لنظام الطوطم الفردي والتي أطلق عليها تسمية "وحدة" من قبل الأنتربولوجيين؟ وماذا قالت التفاسير التي حاولت فهم هذه العلاقة الموحدة لأفراد العشيرة الواحدة بعد كمية من ملاحظات قامت على دراسات أنتربولوجية عديدة؟
لقد وجدت هذه الأبحاث تشابهاً كبيراً بين المشاعر الجامعة والرابطة لأفراد العشيرة الواحدة وبين مشاعر القربى والانتماء لذوي أفراد العائلة الواحدة، لتكون مسألة الانتماء لأفراد العشيرة الواحدة مبنية على أساس الانتماء لجميع الطواطم الفردية للعشيرة الواحدة، من هنا جاءت كلمة وحدة، وهذا ما لقبه دوركهيم بالطوطم الفرعي.
يميل معظم الأنتربولوجيين إلى اعتبار النظام الطوطمي نظاماً عالمياً، إذ إنه لم يكن حكراً فقط على سكان البلدان الأصلية في أمريكا أو استراليا... بل امتد إلى بقاع الأرض المستوطنة من قبل مجموعات بشرية. فقد لاحظوا أن ركيزة الطوطم الأساسية تقوم على وجود عقد أو عهد غير واضح التعريف ذي طبيعة عقائدية بين جماعة ما وبين بعض الحيوانات المنتمية لهذه الجماعة. إذ لاحظ رينا سالامون أن النظام الطوطمي وجد في مرحلة الإنسان البدائي السابق للإنسان الراعي للحيوانات. واعتماداً على البحوث التي تناولت هذا النظام، استطاع الأنتربولوجيون لمس آثاره عند الكثير من الحضارات؛ الإغريقية، المصرية، السورية...الخ. فإذا ألقينا نظرة على النظام الطوطمي نجده يرتكز على تحريم حيوان القبيلة وجعله تابو لا يمكن ذبحه إلا في يوم جماعي في السنة حيث تقام له مراسم خاصة مصحوبة بالبكاء والنحيب.
_______________________________________________________________________________________________
(*9)-كما شرحت سابقا كلمة وحدة والاتية من كلمة phratry
(*10)-الحديث عن سوريا واشعوب السورية ليس له علاقة بالجغرافية السياسية الراهنة، فهي ليست بكلمة مستحدثة، بينما ورد ذكرها في عديد من الدراسات الانتربولوجية، فلها مدلول حضاري واسع لهذا نراها معتمدة عند جميع المؤرخين والانتربولوجيين.
(*11)-في القسم الثالث، الفصل الأول المعنون بالقوانين والأعراف الأولى، نجد شرحا يتناول أسباب هذه المراسيم من خلال تقديم وجهات نظر لبعض اختصاصي النفس.
(*10)-الحديث عن سوريا واشعوب السورية ليس له علاقة بالجغرافية السياسية الراهنة، فهي ليست بكلمة مستحدثة، بينما ورد ذكرها في عديد من الدراسات الانتربولوجية، فلها مدلول حضاري واسع لهذا نراها معتمدة عند جميع المؤرخين والانتربولوجيين.
(*11)-في القسم الثالث، الفصل الأول المعنون بالقوانين والأعراف الأولى، نجد شرحا يتناول أسباب هذه المراسيم من خلال تقديم وجهات نظر لبعض اختصاصي النفس.