لقراءة أثر مفهوم الطوطم في نشأة الأديان الجزء الأول
قبل الاسترسال في حجج دوركهيم الرافضة للتعريف المحدود للطوطم الفردي عند فريدزر، أود أن أتوقف قليلاً لتعريف معنى الأديان عند البعض، لنجد أن الفيلسوف الالماني فريديريك دانييل ارنست شلايرماخر قام بتعريف الدين على أنه "ناتج عن المشاعر المرتكزة على مشاعر الميول الاتكالية للأفراد". بينما أعطى الأثنوغرافي ادوارد تايلور تعريفاً آخر أكثر تبسيطاً للدين على أنه "الإيمان بالروحانيات" معتمداً على كلمة "مينيما" كتعريف للدين. أما بالنسبة إلى عالم الآثار والاختصاصي في تاريخ الديانات سالامون رينا، فقد وجد أن كلمة دين خالية من أية فكرة مطلقة، فهي عبارة عن عوائق تهدف إلى الحد من الإرادة الفردية. فإذا تمعنّا في نواة الفكر الديني من خلال إلقاء الضوء على عدة ديانات، نجد أشكالا شتى من القوانين التي تقف حاجزا ورادعا للنشاط الفكري والنفسي (الفردي) للإنسان. من هذا المفهوم استطاع سالامون أن يعرّف الدين على أنه "مجموعة من الوساوس المعيقة لحركة قدراتنا"(* 6).
نرى أن هذا التعريف الأخير قام بإلغاء الإضافات الروحانية للدين، ليقوم بتجريدها من قدسية نوعية، فيعيدها بذلك إلى مشرحة التفكيك لفهم العوامل التي ساهمت برحيلها من المنبع الإنساني إلى فضاء سماوي.
كما نجد أن هذا التعريف يدفعنا إلى اعتبار النظام الطوطمي نظاماً دينياً حسب تعريف دوركهيم له. وخصوصا عند تجزئتنا للمركب الديني الأساسي المكون من مجموعة أخلاقية - اجتماعية هدفها التحكم بالأفراد والشروع في تنظيمهم من خلال هيكلة جماعية مرتبطة بعاملي الوعي والمعرفة المتغيرتين حسب الزمان والمكان. وعلى هذا الأساس، يمكننا تعريف الأخلاق على أنها: البناء الأول للأديان القائم على إلزامات معينة تمارس على أفراد الجماعة الواحدة للحد من امكانياتهم وقدراتهم الجسدية والنفسية والخيالية والتي تدفع الأفراد إلى التقيد بها وتطبيقها تحت هاجس القلق أو الشعور بالذنب.
هذا الضغط الشديد يدفع الفرد لتبني سلوكيات مفروضة عليه من قبل جماعته تحت شعارات أو أيديولوجيات دينية ... الخ تتناسب مع نسبة تطور وعيه.
بعد الإطلاع على الدراسات والأبحاث التي أجريت على القبائل الاسترالية وغيرها من قبل الأنتربولوجيين، نجدهم يقرون بوجود معتقدات مختلفة في عدد كبير من المجتمعات القديمة.
فالنظام الطوطمي كغيره من الأديان المحتوية على أسس تنظيمية للأفراد المنتميين لها والتي تعكس لنا، في ذات الوقت نظرة عامة الى الحياة، لإيجاد التفاسير المتنوعة لكل ما يحيط بنا مستفيدة من قدرة الأفراد المتميزين لدى جماعاتهم.
لقد حاول الإنسان البدائي جمع كل ما تحويه الطبيعة من مادة حية أو غير حية واستخدامها كعناصر متنوعة مكوناً بذلك نظامه الطوطمي.
أما بالنسبة لهيكلة هذا النظام، فنجد أن كل قبيلة وما تحويه من عشائر تقسم على شكل وحدات، كما تتألف كل وحدة من عشيرتين أو أكثر (* 7)، فيتم منح كل منها بعض العناصر الحية أو غير الحية من خلال تقسيم ما تحويه الطبيعة من عناصر بين العشائر.
يقوم هذا المفهوم على أساس تكتل المادة الحية وغير الحية الموجودة في الطبيعة التي تُكوّن النظام الطوطمي، فيصبح أحد هذه المكونات الطبيعية رمزا للعشيرة. كما أن اختيار أحد هذه المكونات تبقى في حدود التقسيم الطبيعي الممنوح لكل وحدة.
بعد الاطلاع على عملية التقسيم، يمكننا فهم منابع هذه الظاهرة والتي تصب في مبدأ الضمان والحماية للإنسان. فمفهوم الطوطم آتٍ من فكرة التوحّد ما بين الفرد أو الجماعة مع طوطمه والتي تعبّر، بشكل آخر، وخصوصاً بعد إلقاء الضوء على الممارسات المتبعة من قبل الأفراد عند إحساسهم بالخطر، عن محاولات عدة للإنسان البدائي تهدف لنقل روحه إلى أية مادة حية أو غير حية في حال شعوره بخطر ما على حياته. حيث اعتقد الإنسان الطوطمي آنذاك بقدرته على فصل الجسد عن الروح بشكل مؤقت ووضع الروح في مكان أو غرض آمن عند وجود خطر واقعي أو خيالي.
اعتبر بعض الأنتربولوجيين أن الطوطم الفردي جاء وليد معتقد متحول عن فكرة "قدرة انتقال روح الإنسان لطوطمه" والآتي من منبع الخوف والقلق من الخطر ورغبة الإنسان بإيجاد أسلوب حماية ما خشية على حياته. من هنا جاء ارتباط الإنسان بكل ما يحيط به للاعتقاد بمبدأ انتشار القوى الطبيعية الجامعة للإنسان والحيوان والنبات والصخر ... الخ، وقدرة هذه القوى على عدوى من يلامسها. فمما لا شك فيه أن بحث الإنسان البدائي عن وسيلة لحمايته في حال تعرضه لخطر ما، أدت إلى إيجاد وسائل مختلقة من خياله جعلته يعتقد بقدرته على نقل روحه من جسده ووضعه في كائن حي أو في جسد آخر كالحيوان مثلاً، ليقوم باستعادة روحه عند زوال الخطر من خلال طقوس تتم طبعا على أيدي سحرة متمرسين.
نستنتج من كل هذه المعطيات الموجودة لدينا وجود علاقة حيوية بين الفرد وطوطمه إن كان حيواناً أو نباتاً و في حالات استثنائية يمكن للطوطم أن يكون جمادا. هذه العلاقة ربطت الإنسان الطوطمي بالمكان، كما قامت بعملية جمع وربط بين الكائنات الحية بمختلف أنواعها والمكان الموجودة به.
توصل دوركهيم إلى أنه لا يمكننا تحديد الطوطم الفردي بالبساطة التي حددها فريدزر، فهو (أي الطوطم الفردي) قبل كل شيئ، وسيلة لمنح السحرة والصيادين والمحاربين قدرات خارقة تتجاوز قدرات أفراد الجماعة الواحدة.
ولدى البحث عن منبع فكرة التضامن بين الإنسان والحيوان أو النبات أو أي غرض معني (حيث يستطيع الفرد نقل روحه اليها بشكل مؤقت) نجد أن هذه العلاقة برزت كنتيجة إلزامية نشأت عن ممارسة طقوس معينة ونتيجة الإيمان عند بعض القبائل بمبدأ العدوى الذي تكلم عنه فريدزر كمبدأ من مبادئ السحر.
لم يكن فريدزر الوحيد الذي تكلم عن هذا المبدأ، بل نجد أن بعض الأنتربولوجيين مالوا إلى تبني هذا المبدأ. ففي دراسة مطولة ل ايرنست كراولي حيث وضح لنا الأفكار البدائية وتأثيرها على نظام الزواج عند القبائل البدائية، ليعتبر، هو أيضا، أن مبدأ العدوى كان عبارة عن ناتج لتفسير خاطئ لبعض الظواهر المتماثلة والمترافقة لبعضها والتي تتمثل بالتابو.
لا شك أن هناك بعض الأنتربولوجيين الذي فضلوا استخدام مصطلح السحر بدلاً من مصطلح الدين عند وضع فرضياتهم عن الطوطم والتابو ...، ويعود ذلك إلى التفسير الشخصي لمعاني المصطلحات نفسها والناشئ عن إدراك مختلف لأي منهم. لهذا نجد البعض مثل الفريد ويليام هاويت أو جيمس فريزر، قاما باستخدام مفردات كالسحر أو القوى السحرية عند طرحهما لهذا النظام. بينما مال معظم الأثنوغرافيين إلى استخدام تعبير أو مصطلح آخر كالميزات الدينية. إلا أن هذه المفردات لا تختلف كثيرا في مضمونها عن مصطلح القدرات السحرية، فجميعها تستمد منابعها من فكرة واحدة.
اعتبر الكثير من الأثنوغرافيين، بمن فيهم دوركهيم، أن النظام الطوطمي هو شكل من أشكال الدين. فرأى دوركهيم أن مبدأ العدوى الموجود في السحر كان العامل الأساسي في فصل المقدس عن المدنس. لينتج عن هذا الفصل المبادئ الدينية التي بدورها تعود أسسها الأولى إلى العمليات العقلية وعملية الإدراك لدى الإنسان. نلاحظ أن شرح دوركهيم للنظام الطوطمي قام على أساس عناصر النظام الطوطمي وما يحويه من عبادات متمثلة بمجموعة من عناصر مادية ملموسة كالحيوان والإنسان والنبات والصخور وجميع الأشياء التي تمثلها، والتي أتت من معتقد مؤسس على وجود طاقة منتشرة في كل هذه الكائنات المختلفة التي تخيلها إنسان هذه القبائل على أنها وقود غير مادي منتشر في المكان كالقوى الطبيعية مثلا. هذه القوى المتنوعة يمكنها أن تسبب مرضا أو وفاة عند دخولها في جسد غير مهيأ أو مجهز لها، لهذا نجد أن مفهوم التابو أو الممنوع قسم نفسه إلى طاقة إيجابية وسلبية ليلعبا دورا حيويا وإيجابيا في الطبيعة نفسها. فبواسطة هاتين الطاقتين تكتمل الحياة وتستمر.
منح الإنسان مفهوم التابو وما يحتويه من مضمون صيغةً أخلاقية. فلم تكن تلك الصيغة فقط عبارة عن قوى يخشاها الإنسان البدائي فحسب، بل رافقها شعور بالاحترام لها من قبله، فقد عثر من خلالها على وقود الحياة، فكانت لاعباً لدور مهم وفعال في عملية التكاثر لجميع الأنواع، ومن دونها لما وجدت الحياة.
هكذا نظر الإنسان البدائي للقوى والظواهر الطبيعية التي تحيط به، فالنظام الطوطمي وبكل ما يحتويه من عناصر ومفاهيم، يعد نظاماً تُقتاد به العشيرة أخلاقياً حيث تستطيع مواجهة كل ما هو خارج عنها وعن نطاقها بكل اعتداد وثقة... يتبع
لقراءة الجزء الثالث
لقراءة الجزء الثالث
_____________________________________________________________________________________________________
*6- سالامون رينا من كتاب "التاريخ العام للأديان"
*7- استخدمت كلمة وحدة كترجمة لكلمة phratria/phrater والتي تعني الإخاء وهو مططلح انتربولوجي يستخدم لتقسيم مجموعات تتضمن عشيرتين أو أكثر لتوحدهما تحت جناح واحد مع احتفاظ كل عشيرة من هذه الوحدة بخصائصها المميزة.