قبل الحديث عن الحيوان الطوطمي وعلاقته بالقداسة والدناسة، ربما كان علينا تحديد منبع هذين المصطلحين، وإيجاد العلاقة الفاصلة بينهما، والتي نعتقد أنها جاءت من فكرة وجود القوى غير الملموسة التي لم يستطع الإنسان البدائي إدراكها، وذلك قبل أن تتمثل له بثنائية الاتجاه، من حيث التأثير السلبي والإيجابي، المتعارضين في آن واحد مع بعضهما.
لقد أتت هذه القوى كمحصلة لأجوبة جاء تفسيرها بمحض المصادفة لترافق الأحداث مع بعض النتائج المكررة، لتأخذ مع مرور الزمن صفة القداسة، وذلك من أجل تمييزها عن الحياة اليومية للإنسان. فإذا تمعنّا في العبادات والأديان اللاحقة نراها لا تخلو من ثنائية العقاب والمكافأة.
لا شك أن الذاكرة لعبت دوراً هاماً في تخزين هذه النتائج مع التصنيف الذي رافقها والذي تم توريثه إلى الأجيال القادمة عن طريق كلمات وعبارات مستخدمة في كل لغة، وهذا ما يلقب بالموروث الثقافي والذي يتم ترسيخه من خلال الذاكرة الجمعية.
هنا لا بد لي من أن أتطرق إلى الذاكرة من خلال لمحة سريعة عنها، فهي تتميز بذاك القوام لكل الخصائص المختلفة للمجتمعات والأفراد. فعلى الصعيد الفردي تساعد الذاكرة في تعريف وتحديد الفرد من خلال ربط الحوادث والوقائع المختزنة في الدماغ لتسهيل المقارنة بينها وبين الحاضر، كما علينا ألا ننسى أن التفاصيل الموجودة في الذاكرة بكل أنواعها، يمكنها أن تتغير عند إصابة إحساس "الأنا" بالاتهام، لتضيف على تمثيلاتها العقلية المختزنة بعض التفاصيل التي لم تحصل للخروج من ورطتها.
ربما يخيل لبعض القراء أن "الأنا" هي "أنا" فردي، ولهذا، عليّ التنويه بوجود "أنا" جماعي مهمته الجمع بين كل أفراد الجماعة تحت غطاء ثقافة ما، كما أن هناك نوعاً آخراً للأنا وهو"الأنا" الديني الذي يشكل نواة لجميع المتدينين ذوي الانتماء الديني الواحد، حيث يختار هذا "الأنا" الديني رمزاً معيناً يستطيع من خلاله توحيد الأفراد ليحييوا من خلاله ولأجله (وهذا ينطبق على جميع المعتقدات والأديان التي تختار رمزاً أو بطلاً أو رسولاً ما)، ولا بد من الإشارة إلى أن الحيوان الطوطمي أو طوطم العشيرة هو ذاك الرمز الذي يوحّد جميع العناصر الطبيعية بما فيها الإنسان، ليتم إلصاق الأنا الفردية بذلك الرمز من خلال مشاعر موحدة استطاع الدين انتاجها. هذا التوحد ينتج عنه أحياناً شعور بالفردية والتميّز عند الفرد نفسه من خلال المميزات والمكافآت. وبالطبع نستطيع القول إن هذا الشيء ينطبق أيضاً على أي فكر أحادي ثابت غير قابل في قواعده للتغيير، فنجد أن الأيديولوجيات التي تقوم على إلغاء الآخر المختلف عنها ينطبق عليها ما ذكرته من تمحور لـ"الأنا" النواة.
قبل الكلام عن المقدس والمدنس، أود أن ألفت الانتباه إلى العناصر المختلفة التي تجمع الأفراد في عشيرة أو قبيلة أو أية جماعة كانت، فهي التي توحدهم تحت ثقافة معينة شاملة تجمع أطيافها، لامتلاكها مكونات عقلية أو بتعبير آخر "الكون العقلي" والتي تشمل مبادئ ورموزاً ومصالح مشتركة كي تستطيع توحيد الأفراد التابعين لمجتمع ما، لتخلق لديهم شعوراً بالترابط والتواصل فيما بينهم.
ويعتبر هذا "الكون العقلي" أو المكونات العقلية الجماعية مجموعة من صور وأفكار وكلمات متداولة بشكل عفوي ويومي، أي أن جميع الصور العقلية المسجلة في ذاكرتنا الجماعية الطويلة والتي نبدأ بتخزينها منذ ولادتنا عن طريق التلقين الخارجي، لا نستطيع التحكم بالعناصر المختزنة ولا بتوقيت ظهورها.
بالطبع لا يعني كلامي أبداً اننا أمام حالة استعصاء وعجز كاملين أمام جميع الصور التي نتبناها من الخارج، لأن حفظ المعلومة في الذاكرة الطويلة واستحضارها فيما بعد يتطلب موافقة ضمنية على المحتوى العام لها، إذ يمكننا استحضار الكثير من التمثيلات العقلية المختزنة وطرحها من جديد بشكل واع كي يتم قبولها أو رفضها مجدداً. وهذا لا يتم إلا من خلال توافر قوانين خارجية يتحلى بها المجتمع تتيح للفرد المساحة الذاتية الحرة.
أحببت أن أعطي فكرة مبسطة لآلية التفكير كي يستطيع القارئ أن يقارن ويستنتج من خلال نفسه ويربط بين النظام الطوطمي والأديان الأخرى... يتبع
لقراءة الجزء الثاني
لقراءة الجزء الثاني
________________________________________________________________________________________________