القسم الثاني الحلقة 7: زنمردة الإله الخالق*51-الجزء الأول


 
    لاحظ العديد من اختصاصيي علم النفس الأنتربولوجي وجود عنصر أولي خالق للأرض والسماء أو الطبقات العليا التي ترمز في غالبية الأساطير إلى الذكورة، بينما ترمز الأرض إلى الأنثى والخصوبة(*52) فنلاحظ في معظم أساطير الكوسموجوني الإنسانية وجود عنصر الخالق الأولي الذي نشأ من خلاله السماء والأرض أولاً، ومن ثم الريح والمياه...الخ. كما هو الحال عند الأغريق، فـ"الكاوس"(*53) هو العنصر الأولي خالق "جايا" آلهة الأرض والتي من خلالها خُلق "اورانوس" إله الغلاف الجوي المحيط بـ "جايا"، ليتكرر هذا المفهوم عند الصينين في "اليانغ والين" الناشئين هما أيضاً عن مفهوم يشبه "الكاوس" حيث نجد من بين نصوص "داو- دو- جينغ"(*54) هذه العبارة التي تقول: "قبل أي زمن وقبل كل الأزمان، وجد هناك شيء أبدي كامل منتشر في كل مكان، خُلق من ذاته، فلا يمكننا منحه أي اسم أو تحديده، فهو غير المحدد والمعرف".
تشابهت نشأة الكون عند المصريين القدامى مع الكوسموجي الأخرى، بالرغم من حدوث بعض الاختلاف بينهم، فإلهة السماء المصرية أنثى، ليكون بذلك إله الأرض ذكراً، وهما أولاد الإله "شو"، إله الهواء والحياة، وإلهة الرطوبة "تفنوت" اللذان ولدا من بذرة "اتوم" الخالق الأول غير المخلوق(*55) كما هو الحال في معظم الأساطير.
وبنظرة سريعة على نشأة الخلق حسب المفهوم الهندوسي نجدها بدأت على شكل بيضة (بيضة براهما)، لينقسم النصف الأعلى منها إلى سبعة أقسام، فشكلت بذلك التريلوكا، وتعني العوالم الثلاث، وتنقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام (الأرض والهواء والسماء) لتسكنها الآلهة. أما القسم الأسفل للبيضة والممتد على سبعة مناطق جهنمية تدعى "باتالا" ويسكنها الشيطان والأفاعي. وشبيهاً لباقي الأساطير المحتوية على عنصر الخالق الأول، نلاحظ أن الهندوسية مؤسسة على فكرة الروح الكونية المتمثلة بـ "براهما" الأبدي وغير المخلوق. وتتوزع الهندوسية على أكثر من مدرسة، فمنها الشيفية التي تؤمن بثلاثية أبعاد الإله الواحد، والممثلة بالآلهة الثلاث الأولى "براهما" وهو الخالق ويرمز إلى الماضي؛ أما "فيشنو" والذي يرمز إلى الحاضر والمحافظ عليه، ليمثل "شيفا" المستقبل، فهو الهادم والمحول، وهؤلاء الثلاثة هم أسياد العالم حسب هاريفامسا(*56).
سأركز هنا على الإله "شيفا" والذي يعد الإله الأعلى، حسب المدرسة الشيفية، والمتقمص لثلاثة آلهة بآن واحد، فمن أهم صفاته نلاحظ تلك المتناقضة فيما بينها، فهو خير من خلال "براهما" وهادم وبنّاء من خلال ذاته، فهو يهدم بهدف بناء عالم أفضل، ليساهم في بناء العالم عندما يفتح عيونه، ويقوم بهدمه عند غلقها، كما أنه الإله الذي يملك 1008 اسم من أسمائه الحسنى. يمثل "شيفا" ثنائية متناقضة، فهو الموت والحياة الأبدية، كما يمتلك صفات الأنثى والذكر في شكله "ارداناريشفارا"، فلديه الجانب الزنمردي كالكثير من الآلهة الجامعة لثنائية الصفات، كـ "نون" أو "اتون" الإله الأول عند المصريين.
إن مفهوم "الزنمرد" هو مفهوم تكاملي لا يقتصر فقط على جمع الشكل الأنثوي والذكوري تحت غطائه، فهو منبع الصفات والخصائص التي يتمتع بها الذكر والأنثى والموجودة في جميع الأنواع المختلفة، ليكون الجامع بين التناقضات النفسية التي يعيشها الإنسان حيث يخضع لتمثيلاتها العقلية بشكل واع أو لاواع. فنجد أن الإله الخالق يعكس حالة كمالية متكاملة ومتداخلة بكل أنواعها وأشكالها، فهو الخيال والهلوسات والرغبات وحالات القلق والخوف...الخ، كما يرتكز مفهوم الإله الأولي على أساس المعرفة والإدراك المطلق، فهو حالة إدراكية كاملة للداخل النفسي والخارج الواقعي، ليكون نقطة البداية والنهاية للحياة والموت، ولتكون البداية كما نعلم متمثلة بانشطاره إلى شقين؛ أنثى وذكر، فيكتسب كل منهما صفات ثنائية مختلفة، حيث لا يمكنهما التوحد إلا لفترات قليلة، ويتم ذلك بواسطة العملية الجنسية التي من خلالها تبدأ دورة الحياة والموت المتجددتان.
في حكاية قرأها هيربرت سيلبرر(*57) وأخضعها للتحليل، وجد أنه من الضروري تسليط الضوء على بعض النقاط الرئيسية الموجودة في الخيمياء قديماً، وذلك لإخضاع محتويات هذه الحكاية للتحليل النفسي. فقد باشر بتوضيح الخطوط العريضة بهدف ترتيب شكل الحكاية، والتناسب بين خصوصية محتوياتها مع طريقة التفكير آنذاك. ففي المقام الأول(*58)، وجد أن الفكرة المركزية للتفاعل بين شيئين متمركزة حول ثنائيتها، كالمرأة والرجل، الشمس والقمر، الكبريت والزئبق، ليلقب هذا التفاعل في القديم وبشكل مجازي "الملاقحة" حيث ينصهر الإثنان في رمز واحد، والناشئة على ما يبدو من أفكار مماثلة محددة من مبدأ الجنس، فالنشاط الذكوري مستمد من الذهب، بينما يستمد النشاط الأنثوي من الفضة، ليتم اتحادهما وانصهارهما كما ينصهر الزئبق والكبريت.
واستناداً إلى ما قاله مورينوس(*59) "تشبه حجرتنا عملية الخلق الأولى، فأول الخطوات هو الاتحاد، ومن ثم التعفن (تعفن البذرة)، ليليها الحمل والتغذية لاحقاً". فجميع المكونات آتية من جذر واحد... يتبع 

لقراءة الجزء الثاني

_____________________________________________________________________________________________________________________________________

*51-استخدم أبو نواس كلمة فارسية للتعريف عن ثنائية الخصائص الأنثوية والذكورية "زنمردة" وتعني "زن" المرأة، بينما يعني "مرد" الرجل. ويقابل هذا المصطلح بالعربي كلمة "الخنثى"، إلا أن هذا التعبير لا يتسم بالدقة في المعنى. تقابل هذه الكلمة باليوناني "اندروجونيوس".
*52-هناك بعض الحالات المختلفة عنها، كما هو الحال عند المصريين القدامى حيث نجد أن السماء يرمز الى الأنثى، ف"نوت" هي آلهة السماء وزوجة إله الأرض "جب"، ويعكس هذا الشيء حسب اعتقادي مكانة المرأة وماتمثله من حضور في الثقافة الجماعية. وبالرغم من هدا الاختلاف، فاننا نلاحظ وجود عناصر متشابهة بين نشأة الكون عند المصريين وبين الأساطير الأخرى والتي تعكس دلالات نفسية.
*53-ال"كاوس" وتعني بالعربية الفوضى أو الفجوة أو الظلام، وحسب اعتقادي أجد أن مصطلح العدم هو الأكثر تناسباً مع هذه الكلمة، خصوصاً عندما نتكلم عن نشأة الكون. فالكاوس هو بداية الوجود من لاشيء، ليكون في أصله اللاوجود، فيتحول بذلك الى أساس الوجود لحظة خلقه عناصر الحياة والموت معاً.
*54-كتب هذا العمل مؤسس الطاوية الصيني "لاوتز".
*55-تشير بعض الكتابات إلى وجود "نون" أو "نوو" إله المحيطات الأولية (أي المياه) والملاحظ أن "نون" و"اتون" لهما ذات القدرة في ذاتية التولد، كما يملك "اتون" ذات الخصائص الأنثوية والذكرية التي يتميز بها "نون".
*56-هاريفامسا وهو عمل يحتوي على 16375 بيت شعر.
*57-هذه الحكاية موجودة في الطبعة الثانية لكتاب Geheim Figuren Der Rosen-Kreuzer aus dem 16ten und 17ten Jahrhundert والمنشور عام 1790-1785 لدى Altona. محتويات هذا الكتاب الرئيسية تعطي لوحات واسعة لتمثيلات صورية والمرافقة لنصوص عديدة.
*58-كتاب "مشاكل الغموضية ورمزيتها" لهريبرت سيلبرر.
*59-يقال إن خالد ابن اليزيد طلب من الراهب موريينس تلميذ الخيميائي الاغريقي ايتين دالكسنادريا عام 620 ترجمة بعض النصوص اليونانية والقبطية إلى اللغة العربية.