القسم الثاني الحلقة 6: الطبيعة الازدواجية للأم عند الطفل - الجزء الثاني



لقراءة الطبيعة الازدواجية للأم عند الطفل - الجزء الأول



  وبإلقاء نظرة على بعض الأساطير المحكية، نجد ذات العناصر الداخلية المستبطنة لدى الطفل. فقد بين لنا روهيم تمثيل الغول في الفلكلور الأسترالي للأهل. 

   فعلى سبيل المثال، نجد الصورة المزدوجة للأم - الآلهة "كالي" المتعطشة لشرب دماء أطفالها في إحدى الأساطير الهندوسية. وفي ذات الوقت نجدها تحت اسم وصفة أخرى، فهي "ديفي" الجميلة والخيرة (* 49) المعبودة من قبل توابعها. أما في صحراء أستراليا الوسطى، فقد وجد روهيم آثار عادات قديمة حيث أكد له دليله من قبيلة "بيتجانتارا" تقاسم التهام بعض الرضع من قبل أمهاتهم وأخوتهم أو أخواتهن من دون مشاركة الأب الذي يشارك فقط في عملية قتله، فيؤكد لنا مشاهدته لأمهات رقيقات وحنونات، يرضعن أطفالهن حتى العام الثالث أو الرابع من عمرهم, وبذات الوقت يقمن بالتهام طفل من كل طفلين، ليكون التالي أشد قوة,،فيكتسبن بذلك حنانا وعناية شديدة من الأم (* 50). نلاحظ أن عملية التهام الأم لبعض من أطفالها تذكرنا ببعض أنواع الحيوانات التي تنتقي أطفالها، فتقوم بأكلهم بهدف استعادة قوتها بعد الولادة، فتأكل الضعيف الذي يفتقد إلى درجة قوة معينة للاستمرار في الحياة، كما تفعل، على سبيل المثال، الأم القارض عندما تبدأ بأكل الحبل السري حتى سرة صغيرها، لتلتهمه فيما بعد في حال عدم تفاعله مع بدء العض له، وبهذا الشكل تقوم بتصفية الضعفاء واستعادة قوتها في آن واحد.


   اعتبر جيزا روهيم أن هذه العادات تمثل المؤسسة القبلية المرتبطة بمعتقداتها التي تتميز بتنوع الجانب الخارجي للأرواح والشياطين الملقبة ب "مامو"، فلديهم أسنان طويلة تساعدهم على اختراق الجسد والتهام الأمعاء. وينقل لنا روهيم على لسان دليله من قبيلة "بيتجينتارا" كيف حلمت "تانكاي" امرأة "بوكوتي - وارا" بممارسة الجنس مع أخيها "تجيميلكورا"، ليظهر له في حلمه، بعد ليلتين، اثنين من عناصر ال "مامو" بذراعيهما الطويلان وآذانهما الكبيرة، فيهاجمونه ويقتلونه ومن ثم يقومون بتمزيق قلبه وكليتيه وكبده لأكلها.


   نجد أن لهذه الوحوش الذكرية نظيرها لدى الإناث، فهناك شياطين أنثوية آكلة للحوم البشر، والمعاقبة للذكور كالعفريت الأنثوي "كنارينتيا" التي تأتي إلى الذكور ليلاً، فتجلس على عضوهم الذكوري، فتسممه بواسطة مهبلها المليئ بمواد سحرية قاتلة تستطيع قتل الرجال لتكون مهمة الأرواح الأنثوية محاكمة الرجال من خلال عقوبتي الاغتصاب والخصي.


   يستهل روهيم القسم الأول من كتابه ليقارب بين هذه العفاريت البدائية الممثلة للعقاب والأساطير ورغبة الطفل الدفينة في اختراق جسد أمه، فيجد أن هذه العفاريت ما هي إلا تمثيلاً للطفل الراغب في تحقيق دوافعه واكتفاء الفانتازما لديه والممزوجة بحالة القلق الناتجة عن مشاعر التعلق والحب لأمه، لينشأ عن هذه المشاعر المتضاربة شعور يحتم ضرورة تطبيق العقاب.


   إذن، هذه المخلوقات الأسطورية ما هي إلا إسقاطات طفولية لحالات نفسية نشأت عن التقدم (الأنتوجيني) جراء مواجهة بين التجربة الداخلية والمحيط البيئي - الاجتماعي - الثقافي، لتندمج التجربتين: الداخلية والخارجية سوياً.


   مما لا شك فيه، تعد التجربة من أهم الركائز للخوض في استكشاف المجهول، فهي التي تحرض على معرفة الأسباب التي أدت إلى ظهور نتائج معينة, لكنها تختلف حسب المعرفة العلمية والفكرية للإنسان. فالإنسان ذو المعرفة الضئيلة أو القابع تحت سلطة الممنوعات، يعجز عن الملاحظة والتدقيق في العناصر الخارجية، ليقوم بإخضاعها إلى حقله الداخلي المليئ بالرغبات والدوافع والمشاعر المتضاربة فيما بينها، فيختلط عليه الحال ويصبح فريسة سهلة لهلوساته، لينشأ عنها آلية دفاع نفسية تقوم بعملية إسقاطات للخارج.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________

*49-كتاب ذعر الآلهة لجيزا روهيم، حيث لاحظ أن بعض المجتمعات تستخدم وبطريقة إرادرية حالة القلق لدى الطفل كوسيلة لكبح رغباته وتطبيق الممنوعات الثقافية أو الدينية عليه. فقذ لاحظ روهيم وجود علاقة كبيرة بين التربية والثقافة الجمعية والممنوعات الممارسة عليه، ليكون لها أثرها في خلق الروايات والقصص الحيالية. فالإنسان الخاضع لممنوعات شتى بطريقة إرغامية والتي تم تجريدها من عملية الفهم والإدراك والاختيار، يعجز عن إدارة تفكيره بشكل سليم والمصالحة مع جميع تناقضاته النفسية.
*50-كان لأعمال جيزا روهيم أثر صادم على الجميع وخصوصاً بعد شهاداته عن القبائل الاسترالية والتهامها لذريتها. فيقول "يبقى الطفل في خطر التعرض للأكل من قبل والديه حتى لحظة تسميته، فالاسم يحمي الطفل من والديه ويزيل عنه خطر التهامهما له، فهو الدي يربطه بعبادات أسلافه". كما يؤكد في كتابه التحليل النفسي والانتربولوجيا أن "أفراد قبائل جانكيتيحي واولوين والدينجا مارست آكل بعض أخواتها واخوتها، فقد كان أكل لحوم الجنس الواحد منتشراً لدى مجتمعات الغرب أوسطية وفي غرب حدود استراليا الوسطى".