اعتبر دونالد وينيكوت أن حياة الإنسان تعتمد على عنصرين أساسين هما: الحب والكراهية، لينتج العنف عن أحديهما، كما يمكنه أن يكون ناتجاً عن عامل الخوف لديه. تبدأ هذه المشاعر بالنمو منذ الشهور الأولى للرضيع حيث يقوم بإثراء عالمه الداخلي من خلال إدخال الأشياء عليه(*43)، وطرح بعض الأشياء الداخلية(*44). ففي هذا العالم الداخلي للطفل تتداخل جميع القوى الهادمة والجيدة أو السيئة بكل ما لديها من كثافة، فتحاول القوى الهادمة الهيمنة على قوى الحب، مما يؤدي للجوء الإنسان إلى تبني حالة دفاعية من خلال طرح بعض الفانتازم(*45) إلى الخارج، ومن ثم يتمكن من القيام بدور الهادم للحصول على سلطة خارجية تستطيع السيطرة عليه من دون خنق دوافعه النفسية.
بطبيعة الأحوال، يجهل الطفل عملية تثمين الأغراض، فلا يدرك ما يمكنه هدمه أو تثمينه، ليؤكد لنا وينيكوت أن مشاعر العنف تعد جزءا من مشاعر الحب الموجه بدوره إلى الأم والموجه في ذات الوقت بطريقة خيالية ضد جسدها المنفصل ذاته(*46). ففي الأشهر الأولى للرضيع، تمثل الأم له غرضاً جزئياً فتنحصر بالأم- الثدي، ليلعب هذا التمثيل دوراً هاماً لحدوث عملية تمييز يبدأ الرضيع الفصل بين الجيد والسيئ، ليعبر الجيد عن حالة إعطاء الأم ثديها له والمرافق لشعور الاكتفاء، حسب اختصاصية علم التحليل النفسي للأطفال وأهم أعمدته "ميلاني كلاين"، أما السيئ فيتجلى عند سحب الثدي منه أو عند شعور الطفل بالحاجة إليه وعدم توفره أو حتى في حالة فرض الثدي على الطفل لإرضاعه، ليبدأ الرضيع، منذ أيامه الأولى، في بناء عالم داخلي يتناسب مع تجاربه الواقعية وانطباعاته التي يتلقاها من الخارج وممن يحيطه بشكل لاواعي، ليعدّلها حسب الدوافع والفانتازما الداخلية لديه.
تتأجج رغبة دفينة للإنتقام عند الأطفال، ليطرحها من خلال قصص أسطورية تتضمن عفاريت وأشباح، فتعكس بذلك رغبات الطفل الداخلية ومشاعره تجاه أمه والخاضعة إلى جملة مشاعر متناقضة وجملة من الأحاسيس بالذنب، فتنقسم العملية النفسية إلى قسمين تتراوح ما بين الخير والشر، الجنة والنار، وبالطبع ما بين الإله والشيطان، فلا يمكن لوجود إله من غير وجود نقيضه.
وحسب روهيم، فقد مهدت هذه المشاعر والرغبات والمبادئ المتناقضة ظهور سلسلة من الأفكار والفانتازما اللاواعية التي تعزز من خلال النموذج الثقافي والصور الجماعية المحيطة. ولاحظت كلاين أن الميول السادية تتوجه ومنذ الأشهر الأولى من حياة الطفل نحو ثدي الأم، ولا تقتصر عليه فقط بل يقوم الطفل بإفراغ هذه الميول داخل جسد الأم، فيشتهي إفراغه والتهام كل ما يحتويه.
يخضع نمو الطفل إلى آليتي الاستدماج(*47) والإسقاط. ففي الاستدماج يتم كل ما هو جيد بالنسبة للطفل، وبما أن الثدي يعبر عن الجيد والسيئ في آن واحد، فهو بذلك يريد استدماجه واستدخاله عند حصوله عليه. وفي ذات الوقت يصب الطفل جام غضبه على ثدي أمه عند شعوره بالحاجة إليه، لينتج عنه شعور بالإحباط لعدم تحقيق رغبته، لا بل أكثر من ذلك، يولد لديه شعور ممتلئ بالخشية منه، ليعده خطراً على كيانه.
تحت ثقل هذه المشاعر، يجتاز الطفل حالات من الأرق، فينتج عنها آلية للدفاع عن النفس من خلال إنكار حقائق نفسية بشكل لاواعي(*48)، كما يستعين "الأنا" لحماية نفسه من كل ما تم استبطانه عن طريق عملية الطرد والإسقاط. وفي حال العجز عن إطفائها من خلال هاتين الآليتين، يلجأ "الأنا" للتصدي من خلال استخدام ذات القوى التي يستخدمها ضد الخارج، لتشكل هذه المحتويات من أرقٍ وآليات دفاع أساس البارانويا، ليتبين لـ "كلاين" أن الخوف الطفولي من الشياطين والسحرة... خضع إلى عملية إسقاط وتعديل.
وعلينا ألا ننسى استحالة أن تتمكن أم من اكتفاء طفلها بشكل كامل وفي كل اللحظات، لينتج عن هذه الحالة شعورٌ بالعدوانية تجاهها.
من هنا جاءت تحاليل روهيم مكملة لفرويد الذي وضع الأساس الأول للتحليل النفسي عندما اعتبر أن حياة الفرد مقترنة بطفولته وبمحيطه وبجميع الصور الخارجية المشروطة، إلا أن الطفل لا يخضع لها بطريقة سلبية، ليقوم بتحريفها... يتبع
لقراءة الجزء الثاني
لقراءة الجزء الثاني
______________________
*43- وتدعى ب Taking in
*44-وتلقب ب Giving out
*45-مشروحة سابقاً.
*46-طرح "وينيكوت" مفهوم Self والذي ترجمته بالذات والجامع ل"الأنا" وال"هو" وجزء من "الأنا الأعلى"، ويعتبر الجزء الأكثر ابداعاً في شخصية الفرد، فهو الذي يتخيل ويلعب ويؤسس للرمز كي يمنح الفرد الشعور بالوجود. تعكس الذات الحقيقية ثقة الفرد بذاته وبمحيطه، ليكون ذاتاً منسجماً مع هويته وخصوصيته.
*47-الاستدماج يعني تماثل الشخص مع شخص آخر واعتباره جزءا منه، وهي ترجمة لكلمة Introjection
*48-يطلق عليها في علم النفس ب Scotomisation وهي آلية دفاع يستخدمها العصابي لنفي وجود وقائع مر بها ولم يطيقها.
