لقراءة الحيوان الطوطم بين القداسة والنجاسة - الجزء الأول
سأتطرق الآن إلى المقدس والمدنس(*12)، فكما ذكرت، يتحلى المقدس بطقوس سلبية وإيجابية ليقوم بفصل السلبي عن الإيجابي، وتحديد السلبي على شكل ممنوعات التي هي بالأصل تابوهات، إلا أن ما يميز الممنوع عن التابو، أن الأخير يقوم بعقوبة من يلمسه أو من لا يطيع التوجيهات بشكل آلي من دون أي تدخل بشري، بينما نجد أن الإنسان قد أضاف في فترات لاحقة عقاباً بشرياً لأي عصيان للممنوعات المحددة من قبل أديان عدة. وبما أن المقدس يتمتع بطاقة سلبية وإيجابية مؤثرة على الإنسان، فقد تم لصق مشاعر الاحترام له كي يتم عزله على حدة، ولترجمة هذه المشاعر يضطر الإنسان إلى تمثيلها في وعيه لتكون هذه المشاعر مشحونة بكمية من الطاقة العقلية بشكل عال، مما يؤدي إلى رفض و رمي (بشكل جزئي أو كامل) أي تمثيل آخر يعارضها. هذه العلاقة المتضادة، ما بين المقدس وبما يحمله من طقوس واحتفالات وتحريمات وعملية تطهير من الأثم... وبين المدنس وما تمثله هذه الكلمة في الأصل عن ممارسة الحياة بيومياتها الروتينية، شكلت نمطين مختلفين للحياة متباعدين عن بعضهما حيث يصعب على الإنسان الجمع بين هذين النمطين بآن واحد، ليتبنى الإنسان حالتين من الوعي، كل منها تختلف عن الأخرى وتتجه نحو القطب المعاكس(*13). مما يوضح لنا سبب نفور الإنسان عند ممارسته لطقوسه الدينية أو أي تمثيل عقلي لا يصب في خانة معتقداته. من هنا جاء فصل المقدس عن الأيام الأخرى العادية والتي لقبت بالمدنس، لينشأ عن هذه العملية مبدأ الممنوعات والمحرمات.
عودة إلى قدسية الحيوان الطوطمي، وبعد مراجعة ويليام روبيتسون سميث وسالامون رينا عن تاريخ قدسية الحيوانات عند شعوب عدة كالأغريق والرومان والسوريين والمصريين... نجد، على سبيل المثال، أن الخنزير البري كان يعتبر حيواناً مقدساً في سوريا، فكما نعلم من خلال علم التحليل النفسي أن المشاعر المرتبطة بتقديس حيوان معين يتم استبدالها شيئاً فشيئاً بمشاعر مضادة مع استمرارية معتقد تحريمها في ذات الوقت، لأن مشاعر الكراهية والقرف تأتي أحياناً كضرورة حاسمة لإلغاء المشاعر الأولى. من هنا نستطيع استيعاب منشأ تحريم أكل الخنزير عند اليهود والمسلمين والذي تعود جذوره إلى الشعوب الأولى في هذه المنطقة.
نستطيع لمس آثار النظام الطوطمي في منطقة نشوء الديانات الابراهيمية، إلا أن هذا النظام تطور بشكل منسجم مع المراحل المتطورة للإنسان، فالنظام الطوطمي الأول الذي رافق مرحلة الإنسان الصياد كان مختلفاً عن النظام الطوطمي الذي رافق مرحلة الإنسان الراعي والإنسان الزراعي، لهذا نجد آثار الرواسب الطوطمية في المعتقدات الروحية التي أتت كنتيجة متطورة لها.
بعد البحث والتدقيق في البحوث الأنتربولوجية والأسطورية، نستطيع أن نكتشف الجذور الأصلية للأديان التي سبقت منشأ الآلهة والتي تغذت من خيالاتنا، فكانت مهداً لظهور الأديان الروحانية. فنجد مثلاً أن عملية تجسيد الإله بفرد ما لتقديمه قرباناً للسماء في بعض الحضارات من أجل إعادة عملية البعث والإحياء من جديد قادمة من تقديس القبيلة لحيوان والتضحية به (في حقبة متقدمة، حسب رينا سالامون). وكما نعلم أن عملية القتل الجماعي للحيوان الطوطمي في ذلك العهد، لم يكن انعكاساً لعملية تقديم القربان للآلهة حيث أن الآلهة لم تكن قد وجدت بعد، فمفهوم القربان للآلهة تطور تدريجياً مع انتقال الإنسان من المرحلة الوحشية إلى مرحلة رعي الحيوانات حيث بدأت تفقد الحيوانات شيئاً فشيئاً قدسيتها، لا بل أكثر من ذلك بدأ شعور القرف يتنامى عند الإنسان تجاه بعض الحيوانات.
لعبت الطبيعة والحيوانات دوراً هاماً في تطور المفاهيم عند الجماعات، فقد ربط الإنسان البدائي نفسه بالطبيعة، وذلك ليس لإرادة واعية على أنه جزء من النظام الطبيعي، أو إحساسٌ بكل كائن حي، بل جاء من عوامل نفسية اختلطت بها التفاسير والتي امتزجت بمشاعر العجز عن التحكم بكل ما هو خارج. فلدى قراءتنا لبعض كتب التاريخ، نجد وبسهولة استخدام شعوب العالم بعد مرحلة "الإنسان الزراعي" لحيوانات تقوم بتبشيرها بخطر ما أو باستكشاف بعض الينابيع الطبيعية، وربما، تعود أحد أسبابه إلى ملاحظة الإنسان حدة القدرات الحسية عند الحيوانات. فمثلاً، كتب المؤرخ التاريخي الروماني تاسيت عن تقديس اليهود الأوائل للحمار بعد كشف قطيع من الحمير الوحشي لـ"موسى" ينبوع المياه بعد أن استفحل به وبجماعته العطش، فكما فسر تاسيت سبب تقديم اليهود الثور ضحية قربانية، لرغبتهم الشديدة بالانتقام من المصريين الذين كانوا يقدسون الثور تحت اسم "أبيس".
هذه العادات استطاعت أن تتحول فيما بعد إلى معتقدات روحية وإلى مبدأ العقاب والثواب الإلهي لتتخللها طقوس دينية لم تخل من رواسبها الطوطمية الأولى.
وبما أننا نتحدث عن الطوطم وأثره في نشأة الأديان والآلهة، فلا بد لي أن أتطرق إلى التابو المقترن بهذا النظام، لنطلع قليلاً على مصدره وتطوره التدريجي الذي ساهم في تنظيم الزواج.
__________________________________________________________________________________________
*12-يرافق كلمة "مدنس" وكما يتداولها الأفراد في اللغة العربية شعور بالاشمئزاز والقرف، فيقال: دنس المحرمات ومعناه انه تم توسيخ وتلطيخ بكل ماهو مكروه. بينما نجد ان جذور هذه الكلمة استخدمت فقط للتعبير عما هو غير مقدس، فلم يرافقها شعور القرف. وذلك لأن المقدس يحدد من خلال الأمكنة والأيام المكرسة له لعبادات واحتفالات... فلا يمكن للمقدس أن يكون مستمرا طيلة الأيام. من هنا جاءت كلمة مدنس وهي profane والتي تتميز عن الأيام المقدسة، فهي اليوميات العادية للأفراد الخالية من ممارسة الطقوس والاحتفالات الدينية، كما أن الغرض المقدس وهو الغرض التابو لا يمكنه أن يوجد إلا في أماكن مخصصة له.
*13-ايميل دوركهيم، الأشكال البدائية للحياة الدينية-الطقوس السلبية واثرها، صفحة 459-460
