القسم الأول الحلقة 6. التابو: أحد المنابع الأولى للأخلاق - الجزء الأول




قبل البدء في إلقاء الضوء على علاقة التابو بملاحظة الإنسان الأول للظواهر الطبيعية، لينشأ عنها لاحقاً ارتباط التابو بعقوبات معينة، أود أن ألفت الانتباه إلى أن القوانين الجماعية كانت حصيلة مجموعة من ملاحظات ونتائج فردية والتي تعتبر بدورها، من وجهة نظر عصبية، حصيلة لصور عالقة في الذاكرة طويلة المدى والمليئة في نفس الوقت بالمشاعر والأحاسيس المرافقة لها أثناء حدوث التجربة الفردية، ليقوم بعدها الدماغ بتصنيف جميع الصور المتشابهة في الذاكرة الباطنية والترابطية والتي تعلن عن نفسها من خلال السلوكيات. 
حرّم الإنسان البدائي ملامسة كل ما كان يجهله، وذلك تجنباً للمخاطر وليس إدراكاً لمفهوم أخلاقي معين. فالأخلاق حسب تعريف فيلهيلم وندت هي وليدة التابو الذي كان بدوره وليد الجهل ووليد مشاعر الخوف من الطبيعة ومن كل ما لا يستطيع الإنسان فهمه من ينبوع الغرائز الأولى. إلا أن التابو انفصل في وقت لاحق عن مصدره أو ينبوعه، ليبقى منه فقط الآثار النفسية التي تركها بشكل لاواع على الأفراد. كما رأى وندت أن المقدس أو المدنس كانا في الأصل واحداً وذلك في المرحلة الأولى لتشكل التابو، فجاء تفسيره للتابو على أنه الجامع ما بين القوة الشيطانية والقوة الحامية، فالاقتراب من التابو أو لمسه كان ممنوعاً أكان غرضاَ جامداً أو غرضاَ حياً، وذلك من أجل حماية الجماعة، ليصبح مع الوقت قوة مستقلة تؤثر على الأفراد وتفرض عليهم ثقافة معينة. من هنا نجد أن مشاعر الاشمئزاز والتعظيم للتابو كانت متجلية بشكل واضح عند الإنسان البدائي، لتنفصل هاتين القوتين عن بعضهما وتشكلان قوتين متعاكستين كالشر والخير.
إن استخدام كلمة "ديمون" والتي تعني "العفريت" بالعربية أو الشيطان أو الروح الشريرة كان لديها معان و خصائص مختلفة في الرموز الأسطورية للحضارة الإغريقية. فكانت هذه الكلمة مزيجاً من صفات إلهية وإنسانية معاً، فموقع أو مكان الـ"ديمون" كان محصوراً ما بين الإله والإنسان، أي أنه تمتع بصفات أكثر من إنسانية و أقل مرتبة من الإله. لذلك نجده خالياً من مفهوم الشر المطلق عند الإغريق، بل كان قوة مستقلة تضاهي قوة الإنسان.
نستطيع القول: إن مفهوم كلمة "الديمون" ومعناه في الأصل لم يكن مرادفاً لما تعنيه اليوم في ثقافاتنا. واكتسابه لقوة الشر جاء متناسباً مع المفهوم المتغير للتابو عبر الثقافات المتغيرة.
لقد قام اختصاصيو النفس بعملية تحليل للـ"ديمون"، فوجدوا أن الـ"ديمون" يعكس المشاعر الداخلية للـ "أنا" ليتم إسقاطها على العالم الخارجي فهو محاولة لفصل مشاعر الكراهية الموجودة لدى "الأنا" ولصقها بـ "أنا" آخر. كما نجد أن الـ "ديمون" عند الإنسان البدائي يرمز إلى تابو الموت، فمن هنا التصقت مشاعر الخشية لدى الإنسان من تابو الموت بـ "الديمون" مما أدى إلى ترافق مشاعر الكراهية له، لتعكس خشية الإنسان من الموت ورعبه من فكرة الفناء. فكما نعلم أن إبعاد المشاعر المتعارضة فيما بينها إلى الخارج تؤدي إلى خفض نسبة العراك النفسي لدى الفرد مما يؤدي إلى إراحته. لهذا نستطيع أن نستنتج أن العفاريت والأرواح هي حصيلة إسقاطات لميول عاطفية ومشاعر متناحرة فيما بينها، لنجد أن نظرية خلق الأرواح آتية من منبع التحريمات الأخلاقية الأولى، أي من إرشادات التابو.
لقد ارتبط التابو ارتباطاً مباشراً بقدرة الإنسان الواعية. كما أن تطوره إلى بعض القوانين والأسس الأخلاقية نتجت عن خشية وخوف من المجهول، أي أن العامل النفسي والإدراك الواعي ساهما بتشكيلها وتطورها، وهذا يتجلى لنا بوضوح تام في معظم الأديان المرتكزة على مفهومي العقاب والثواب، واللذين كانا عنصرين جوهريين في مفهوم التابو. لقد كان الشق الإيجابي للتابو متمثلا في الشعوذة التي تقول: "افعل هذا الشيء كي تحصل على ذلك الشيء"، أما الشق السلبي في التابو فيقول: "لا تفعل هذا الشيء كي لا يصيبك ذلك البلاء". وإذا قارنا مفهوم الأديان بمفهوم التابو نستطيع أن نلمس التقارب بينهما. فالتابو بشقيه السلبي والإيجابي يهدف إلى الحصول على شيء مرغوب أو تجنب شيء ضار، أو بمعنى مستحدث ديني هو عبارة عن غاية خيرة من أجل اجتناب أخرى ضارة.


وبالعودة إلى منابع التابو الأولى، نجد أن تحريم الإنسان البدائي لما كان يجهله نجم عن رغبة في تجنب الأخطار، فلم يكن تعبيراً عن حس أخلاقي. إذ لم يأت التابو من رغبة جماعية أو فردية في تنظيم الكتلة. فقد خلا التابو في البدء من أية عقوبات تمارس على الأفراد الخارقين لتابوهات الجماعة، وذلك لأن التابو نفسه كان كفيلاً بقتل أي فرد أراد لمسه بشكل مقصود، أو عن طريق الخطأ. فالتابو لا يعني القيام بأي فعل بمقدار ما يعني الامتناع عنه. إذ كان التابو كابحاً وليس محفزاً. وهذا ما يفرق بين التابو وبين التشريعات الدينية التي نتجت فيما بعد عن تحول في التابو الناشئ عن المشاعر النفسية المصابة بالهلع ليكون جواباً عاماً لكل الإصابات الناتجة عن حوادث متكررة والآتية عن طريق المصادفات والظواهر الطبيعية. نستنتج هنا أن ربط الإنسان البدائي نفسه بالطبيعة كان ناتجاً عن عوامل عدة، ومن أبرزها العامل النفسي الممزوج بمشاعر العجز عن التحكم بالخارج... يتبع

لقراءة الجزء الثاني

لقراءة الجزء الثالث
_______________________________________________________________________________________________

*14- جيمس فريدزر: كناب الإنسان، الإله والأبدية صفحة 166.