القسم الثالث الحلقة 8: آلية استقبال الصور الخارجية




لا بأس من إلقاء نظرة على آلية عمل الدماغ البشري للتعرف على بعض النظريات التي تعنى بهذا الأمر، والتي سنقوم بدراستها بعيداً عن ما تعلمناه من أساطير وخرافات. ولكن قبل الخوض في الآلية، دعونا نتطرق إلى مسألة رفض الأفراد للأفكار الخارجة عن قناعاتهم، أو بالأحرى المختلفة عن "الأنا" الفردية وميل الأفراد إلى ترجيح كل ما هو متكرر، ويدعى ذلك من وجهة نظر عصيية، ترجيح الإحتمال المؤثر*(87). وهذا ما يفسر لنا "استنساخ الأفكار والمنهجية مبتعدين عن تقبل كل ما هو خارج عن الإطار "الأنوي" المعرفي والنمطي". فالتعلم واكتساب المعرفة يعتمدان على قدرة في تجميد "الأنا" المعرفي لاستطاعة سماع أو قراءة ما يختلف عنه. كما أننا جميعاً، ومهما اختلفت نماذجنا الثقافية والاجتماعية، تم تلقيننا منذ صغرنا معلومات موجهة أو تعاليم مشروطة تسللت إلى الدماغ الفردي وانغرست به من خلال خلق صور أو تمثيلات عقلية تم تكرارها مراراً وتكراراً، كي تكون الموجه اللاإرادي لكل فرد منا. كما أنه من الطبيعي أن يجد الإنسان صعوبة في خلع معطفه الثقافي وبكل ما يحويه من سلوكيات وقواعد، والإعتراف بعملية "اغتصاب" مورست ومازالت تمارس عليه إلى يومنا هذا من قبل جماعته. من هنا أقترح أن نضع أحاسيسنا واختلاجاتنا في علبة صغيرة لوقت ما، وخصوصاً عند قراءتنا لأفكار أو فرضيات أو نظريات مختلفة عما هو مغروس في دماغنا، كي نستطيع الغرق في كل العلوم. لهذا أجد أنه من الضروري إعادة تفكيك الأديان لاحتوائها على صور عقلية خالية من المرونة، فهي ترسخ التشنج الفكري لدى الأفراد وتزيد في عزلتهم العقلية عن كل ما هو مستجد ومعرفي. وبما أن الأديان لا تملك تلك الصيغة المتغيرة، بل تعتمد على قواعد وأسس ثابتة جاءتنا كنتيجة متقدمة زمانياً عن الخرافة التي تمكنت من خلق مساحة واسعة لها في نواة الأديان. فعلى الرغم من اكتساب الدين قوة مستقلة إلا أن الخرافة استطاعت أن تتغلغل فيه وذلك لرغبة الكتل الجماعية في استمرار عاداتها وتخيلاتها الخرافية وممارسة معتقداتها القديمة، فنرى كيف ارتدى الدين ثوب الخرافة من أجل استمراره ولرغبة مؤسسيه في نشر ما جاؤوا به من جديد. فمن الصعب بتر ممارسات ومعتقدات موجودة عند الكتل بشكل كامل وخاصة أن المعتقدات عبارة عن ناتج فكري واع لدى الجماعة. فإذا رغبنا في تغيير معتقد ما علينا بهدم جميع الصور العقلية الموجودة في الدماغ لبناء صور أخرى، وهذا العمل لا يمكن تحقيقه إلا تدريجياً، فمن السهل إعطاء الجديد من الأفكار تحت عباءة قديمة، أي استخدام نفس الصور وتغيير شيءٍ من محتوياتها.
نعود الآن إلى عملية التطور نفسها لنرى ما قام بوضعه الباحثون والدارسون في مجالات مختلفة وما سعوا إليه من تفاسير علمية تستند إلى التجارب وليس الخيال، مع أن الخيال الفكري يعتبر المحرك الأساسي للإبداع، إن كان إبداعاً علمياً أو فنياً... إلا أن ما يميز هذه النظريات العلمية القائمة أيضاًعلى الخيال الفردي عن الخيال الخرافي أو الديني أو الروحاني، فهو إن هذه الفرضيات العلمية تخضع إلى البحث التجريبي ويشرف عليها طاقم من خبراء علميين من أجل اثباتها أو دحضها. وتحت إشراف هذه المجموعة يجري إعطاء أجوبة لأسئلة تطرح من أجل الحصول على تأكيدات من خلال العلاقات الملاحظة بين الظواهر المتنوعة ومن أجل إيجاد البراهين لإثباتها. ورغم صحة القول: إن النظريات عموماً عبارة عن منشآت عقلية وتفاسير معتمدة على ذاتية الطاقم القائم عليها، إلا أننا نستطيع الإستنتاج على أنها أكثر موضوعية وأقرب إلى الواقع في نقلها وشرحها من التفاسير القائمة على النشاط النفسي فقط كالأديان ومعتقدات ما وراء المادة.
 أوضحت لنا النظرة التطورية وقوانين غشتلت طريقة تنظيم الدماغ للتجربة الإدراكية لتعكس لنا قوانين الطبيعة، فكما نعلم، إن عملية التلقي الإدراكي تقوم على أساسين هما النظام والتفسير؛ فالنظام النفسي يعكس لنا نظام الطبيعة بينما التفسير يعكس لنا التجارب المختزنة في الذاكرة والتي يقوم الدماغ على أساسها في اختيار تفسير محدد ليقارن الصورة الخارجية بالصور المختزتة في الذاكرة، فبحسب النموذج الإتصالي، وهو أحد الطرق المستخدمة في مجال العلوم الإدراكية والتي تحاول أن تطرح نماذج لمظاهر سلوكية وعقلية استناداً منها إلى علم الشبكات العصبونية الشارحة لعملية التصنيف الحاصلة في دماغنا من خلال التشابهات الموجودة. فآلية تخزين مفهوم ما في الذاكرة، تتم من خلال العقد المشتركة (التي تشكل شبكة كاملة من وحدات معالجة) مع المعطيات الإدراكية الحاضرة في حال امتلكت التجربة الإدراكية الناشطة عقداً كافية يستطيع المحفز تصنيفها كمفهوم ليقوم بتسجيلها في الذاكرة، فمعظم النماذج الإتصالية تعتمد على الزمن كعامل تغير أساسي لأن الشبكة تتغير مع تغير هذا العامل.
أما بالنسبة لدور الإحساس والإدراك، نجد أن الإحساس يتولى من جهة عملية استقبال المعلومة المرتبطة بالمحيط من خلال الأعضاء الحسية ليقوم بتحويلها إلى الدماغ وبدروه يقوم الدماغ بمعالجتها عن طريق قيامه بتصنيف وترتيب وتفسير الأحاسيس وهذا ما نسميه بالإدراك. فالترجمة الإدراكية تنشأ عن تقاطع الإحساس والذاكرة معاً، هذه الترجمة تستند إلى قاعدة من المعلومات والتجربة المتشكلة من المحيط من خلال خلق توقعات وهو ما نسميه: التوقع الإدراكي.

مما لا شك فيه أن هناك آلية لانتقاء التمثيلات العقلية في الدماغ والمتعلقة بإدراك ووعي الإنسان المتغيران حسب الزمان والمكان والرغبة الإرادية الفردية في تفكيك وفهم جميع الآليات، كي تزيد لدى الإنسان فرصه للتغيير. لكن قبل كل شيء دعونا نقوم برحلة في دماغ الإنسان والمرور على بعض الدراسات التي فسرت لنا هذا التطور.
______________________________________________________________________________________________
*87-ترجيح العرض المؤثر لزاجونك، مشروح في فصل آلية انتقاء التمثيلات العقلية.