القسم الثالث الحلقة 7: الحياة بين الإلزام والحرية




دعونا نتساءل في البدء عن معنى الحياة وعن الإلزامات التي تقيضنا نحن كأفراد من أجل إضفاء صيغ وقوانين تحد من حرية الفرد تجاه الجماعة؟ والهدف من هذه الإلزامات؟
كثير منا يعلم أن الهدف الرئيسي للحياة يصب في التكاثر الضروري لتطور البشرية مما يعني تفضيل الآخر عن نفسه، وذلك نراه في تضحية الأهل لصالح الأولاد، وصحيح أيضاً أن حب الأولاد آت من حب امتداد الأنا واكتفاء الرغبة الدفينة في الخلود، فبالرغم من خلق الإنسان لآلهة كثر وجنات عدة إلا أنه يدرك في أعماق نفسه أن خلوده لن يتم إلا بيولوجياً أي عن طريق الجينات المتوارثة.
نلاحظ أن الإنسان استطاع على مدار الزمن تأطير الغايات الغرائزية وتحويلها إلى فضائل ضمن مفاهيم جماعية منظمة تصب في مصلحتها. فنلاحظ أن البعض من التفاعلات النفسية تم قمعها وطرق على البعض الآخر عملية تصعيد، فتمت عملية إضفاء معانٍ سامية عليها تحت خانة "خير البشرية" (مع أن الخير والشر متغيران أيضاً حسب المكان والزمان).
 استطاع الإنسان وتحت الغطاء الجماعي خلق مفردات ونصوص وخطابات وأيديولوجيات... لإقناع الأفراد بجمال محتواها لتصب أخيراً في خانة المصلحة الجماعية وخانة الأفراد القلة القائمين على هذه الجماعات. 
فإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى مبدأ التضحية كغاية في الحياة وأقررنا أن مبدأ التضحية من أجل الآخر هو هدف للحياة نفسها، وذلك للوصول إلى فكر أعمق ووعي أكبر لخير البقاء البشري. نجد أن مبدأ التضحية كان ضرورياً في فترة زمنية معينة وخطوة هامة خدمت البشرية في عصرها وساهمت في مرحلة ما في تطور الجماعات. ولكن، مما لا شك فيه، أن المراحل الزمنية تحتاج كل منها إلى مفاهيم ومبادئ مختلفة عن سابقتها وذلك خدمة للبشرية ولتطورها المستمر. فمثلاً، عند قراءة التاريخ، نجد أن جميع الخرافات التي فُرضت على الجماعات، كانت بهدف تقوية واستمرارية العرق البشري وتجلى ذلك من خلال تضحية الحاضر من أجل المستقبل، ليتخلى الفرد عن اكتفاءاته الآنية للتمتع بها لاحقاً بشكل مطول، وهذا ما نراه على نحو واضح في عمق التفكير الديني وفي الأساطير القديمة والقصص الشعبية المتوجهة لغرس تمثيلات عقلية لدى الأفراد بضرورة نبذ وقمع السعادة الفردية الأرضية للحصول على سعادة وتحقيق الاكتفاءات المستمرة لما بعد الحياة، أي ممارسة العقاب الأرضي على الذات من أجل الحصول على مكافأة سماوية. كما نلاحظ أيضاً ارتباط مبدأ التضحية في بعض الديانات ليرتبط بغيبيات خرافية مشحونة بسلبيات ممتزجة مع تفاعلات نفسية مقموعة، لتؤجج ثقافة صلب الذات وجلد المعرفة، وتبتعد بذلك الجماعة عن فهم المغزى البيو- نفسي للألم.
لا شك أن مبدأ التضحية أتى نتيجة قمع الاكتفاءات الفردية، ولصالح مبدأ الهيمنة الجماعية والتي جاءت كبديل للذات الفردية، ليتم تحويل هذه الذات إلى طاقة نافعة للجماعة، وذلك على حساب الفرد ولتصب أيضاً في مفهوم التضحية. 
عودة إلى الألم من منظوره العلمي، نجد وكما وضح "ديلجادو" ارتباط العنف مع حالة الألم الممارسة بالتحديد على الفرد المستعبد من خلال آلية المكافأة والترفيع في المناصب، وهذا ما نراه بشكل جلي في الأديان التي ترتكز على نفس المبدأ من خلال إعطاء جنة تداعب خيالات الأفراد لتهبهم ما حرمتهم إياه على الأرض.
مما لا شك فيه أن مبدأ التضحية أخذ أشكالاً عدة تصب كلها في مصلحة الجماعة والبقاء البشري، ومما لا شك فيه أيضاً أن مبدأ التضحية كان خطوة هامة في زمن ما. ولهذا نستطيع القول: إن الأيدلوجيات سواء كانت دينية أو عرقية أو اجتماعية، ساهمت في مرحلة ما في تطور الجماعات، لأن ازدهار الجماعة بُني على حساب الأفراد، وعملية التصعيد المستمرة كانت خطوة هامة لبناء الحضارات وانتقال الإنسان من ضرورة اكتفاء حاجاته البيولوجية الفردية إلى ضرورة العمل تحت إطار جماعي والتضحية من أجله. لكن يحق لنا في عصرنا الحالي التمعن في هذا المفهوم مجدداً لإيجاد مفاهيم جديدة تصب، ربما، في ينبوع المصلحتين معاً.
لا شك أن الحضارة البشرية ناتجة عن تطور مرحلي للوعي والإدراك المتغير حسب المنظور المنفعي للبشرية والتي تخدم استمرار العرق الإنساني. من هنا، أعتقد بضرورة العمل على إعادة الحرية للفرد أولاً والحد من قمع غرائزه من أجل العثور على توازن سليم ما بين المصلحة الفردية والجماعية. فالهدف الرئيسي هو إيجاد وعي أكبر لتحرير الفرد من جميع الإلزامات التي قيدته بها الجماعة وإيجاد توازن بينه وبين مصلحة الجماعة. ولا شك أيضاً أن التغير البيئي الذي نلحظه في هذا العصر، يحتم علينا عدم التوقف عند هذا الحد من التوازن الفردي- الجماعي، بل يدفعنا إلى إيجاد توازن بيئي ما بين الكيان الإنساني والكائنات الأخرى والطبيعة الأم، للتمكن من إدراك الحياة كاملة، ومنها نستطيع إدراك الحرية بمعنى أشمل.
وبما أنني تطرقت إلى موضوع الحرية، فدعونا نراجع بعض ما ذكره بعض الفلاسفة بشأنها. فنجد أن ايمانويل كانط، على سبيل المثال، قام بالتمييز ما بين الحرية الداخلية للفرد التي تقوم على مبدأ الحكم على الأشياء من خلال نظرة داخلية للإنسان، وبين الحرية الخارجية التي تتمثل بحرية التعبير في مجتمع ما يسمح فيه للفرد بالتعبير عما يجول في عقله من أفكار وأحكام من دون اللجوء إلى الغير لتبني أحكام قامت الجماعة بصياغتها بدلاً عنه. 
فالحرية الخارجية تتيح للفرد استخدام حريته الداخلية ليشارك في النقد والهدم والترميم. أما في حال عدم امتلاك هؤلاء الأفراد الحرية الداخلية بالرغم من وجودهم داخل مجتمعات تتمتع بحريات النقد و التعبير، إلا أنهم يبقون عبيداً، عاجزين عن البحث والعطاء. فالحرية الداخلية لا تتجزأ عن الخارجية، فمن خلالها يستطيع الفرد مراجعة ما فُسر أو كُتب من الغير وإخضاع الأمور إلى الذات المعرفية والتحليلية والتي من خلالها تتكاثر الأسئلة لتكون محفزاً أساسياً للوصول إلى أحكام ذاتية. فالعبودية والحرية خاضعتان لقوانين الجماعة من جهة، وللفرد من جهة أخرى. حيث يمكننا من خلال الحرية الداخلية إنضاج أفكار تستطيع توجيهنا نحو البحوث المستمرة، لاكتساب قدرات وإمكانيات تساعدنا في الوصول إلى فهم تاريخ البشرية وفهم الطبيعة والحياة معاً، ولاسيما أن الحياة كما نعلم ليست حصراً على الكائن الانساني فقط، بل تشمل الكائنات الحية كلها حيث نشكل جميعاً عناصراً حياتية مترابطة مع العوامل البيئية الخارجية.

مما لا شك فيه أن هدفنا الأساسي في هذه الحياة هو الإرتفاع بوعينا وإدراكنا لاحتواء ما هو حي. فالإنسان استطاع وعبر الزمن تطوير جهازه الحسي للإرتقاء نحو إدراك أوسع وفهم أشمل. لهذا يمكننا تلخيص الحياة بكلمة واحدة وهي الحرية. هذه الحرية التي نسعى إليها تدريجياً تدعونا إذا أحسنا لمسها أن نتخلى عن رؤى ضيقة محدودة.
_____________________________________________________________________________________________________