القسم الثالث الحلقة 6: إعلان الإدراك عن نفسه




يستند الإدراك إلى التنظيم وترجمة المحسوسات حيث تكون مهمة التنظيم تحديد معنى الأحاسيس للاحتفاظ بمعانيها، فآلية التنظيم تستند إلى عدة عوامل منها الإدراك الغشتلطي(*84) الذي يقوم بتقسيم الأشياء الموجودة في المحيط إلى وحدات، كمثال (تقسيم الكلمة إلى أحرف)، كما تقوم الترجمة بإعداد معاني ترتكز عليها من خلال التجربة الحسية، لهذا لا يمكننا التحدث عن فطرية خصائص النظام العصبي ولا يمكننا أيضاً الاعتماد على مبدأ الاكتساب بشكل كامل، أي أن الخصائص البيولوجية لا يمكنها الوجود إلا من خلال محيط يساعدها على الظهور، فالاكتساب المعلوماتي يهيئ لنا قاعدة واسعة للإدراك الخارجي.
دعونا نتمعن في ظاهرة سماع ما نرغب سماعه، ولنرى تأثير المحرك المعرفي على العملية الإدراكية الواعية. فالتوقعات الناتجة عن تجارب فردية أو جماعية إضافة إلى الثقافة المكتسبة من المحيط المنعزل تقود جميعها عملية الإدراك بشكل ثابت، أي أن المعرفة والمعلومات المتنوعة والإطلال على النماذج الثقافية الأخرى ووجهات النظر المتضاربة تقودنا إلى حقل أوسع من الإدراك وأكثر قدرة على التحول والتلاؤم مع تغيرات المحيط.
فإذا نظرنا إلى آلية اكتساب المعرفة المتمثلة بإدراك واستجلاء المحيط المعرفي لكل الأمور الخارجية، نراها من وجهة نظر عصبية معتمدة على قدرة الفرد واستعداده الدائم للتشكيك بكل ما أسس عليه من معتقدات، أو رؤى.
ففي كل مرة نقوم بمحاولة معرفة شيء ما، أو الاطلاع على أفكار مختلفة عن أفكارنا وعن الأسس التي تشكل القاعدة لعملية الوعي والتي تتطلب منا التحرر من جميع ركائزنا ومعتقداتنا الأنوية ومفاهيمنا، لنقوم باستعراضها ثانية وترميمها مع كل المستجدات من أفكار ومعتقدات ودراسات، فعندما نستطيع إعادة تفكيك المبنى الأنوي وصياغته مجدداً وبشكل مستمر، نستطيع عندها تجاوز بعض الهضبات والتلال الوعرة. 
وقبل الخوض في تعريف المبنى الأنوي، دعونا نقوم بتعريف معنى المعرفة والذي يشكل جزءاً مهما من هذا المبنى. اعتبر الفيلسوف ديفيد هيوم أن المعرفة مستندة إلى الإنطباعات الحسية فلا يمكنها أن تكون دقيقة لأنها ناتجة عن محاولات شتى للتفكير معتمدة بذلك على الأسباب والنتائج المترابطة والناشئة من تكرار الإنطباعات الحسية. أما اختصاصي الأعصاب ليونيل نكاش فقد قام بالفصل بين المعلومة والمعرفة، فاعتبر أنه في معظم الأحيان يتم خلط مفهوم المعلومة بالمعرفة ليضيع المعنى الأساسي للمعرفة نفسها. مما لا شك فيه أن المعرفة تستريح على قاعدة من المعلومات المتوافرة، فحسب تعريف نكاش للمعرفة وجد أنها "رواية الأنا" الجامعة لمفاهيم وأخلاقيات وقناعات وتجارب وخيال... أسست لتوجه إدراكنا في منحى يلائم مبناها ليصبح الإدراك مشروط بها، فإذا رغبنا باكتشاف ما لا نعرفه أو أردنا السعي نحو إدراك أوسع للمعلومة لتحويلها إلى مفهوم معرفي، علينا أن نضع "رواية الأنا" على كفة الميزان لإعادة تغيير في مبنى "الأنا"، ففي كل رحلة غوص استكشافية، يتوجب علينا خلع جميع المكونات الأنوية الناتجة عن معتقدات وأسس تراكمت في ذاكرتنا لتشكل جداراً استبدادياً وقمعياً. كما أن سعينا نحو فهم الأنوات الأخرى للوصول إلى معرفة جزئية يقوم على أساس هدم مبنى الأنا تدريجياً واستبداله بأفكار وقناعات أكثر انفتاحاً على الغير مع محاولة فهم الوجهات المختلفة كي نتمكن من بناء معرفة جزئية والإنطلاق في رحلة استكشافية لكل ما يغلفنا ويحيط بنا. عندها فقط نستطيع ابتداء رحلة الوعي.
أما المبنى "الأنوي" فهو مرتكز وبشكل أساسي على التعاليم المكتسبة من الثقافة الجماعية وهذا ما نلقبه بالوعاء الجماعي، لأنه يحوي كل الأفراد تحت بطانة من معتقدات ورؤى ومفاهيم حيث يتداخل الوعاء الثقافي الواسع مع وعاء أصغر منه وهو الأسس التربوية الأسرية والتي تختلف بدورها ببعض التفاصيل ما بين أسرة وأخرى، ناهيك عن تداخل الأوعية الخارجية مع القاعدة البيولوجية لكل فرد، فنجد أن المحيط الخارجي له تأثير كبير في ظهور أو انضمار بعض الجينات. كما أن التشبث بمعتقدات وأفكار ثابتة، من وجهة نظر بيو- عصبية، تجعل الفرد عاجزاً عن التعلم المختلف، أو بمعنى عصبي، يتم القضاء على احتمال تغيير المشابك العصبية للوصول إلى إدراك أوسع ناتج بحد ذاته عن حالة التعلم(*85). كما نلاحظ أن جميع عمليات التعلم معتمدة في البدء على الإرادة. فآلية تداولها تتم بشكل واع كي تتجه فيما بعد الى اللاوعي الذي يحتوي على نشاط غني بتمثيلات عقلية(*86) تتضمن أفكاراً ورؤىً وتجاربَ مختزنة.
وبما أننا نتكلم عن الثقافات الثابتة، فلا بد لنا من إلقاء نظرة على أخلاقيات الأديان الثابتة وعلى ينبوعها المرتكز على النشاط النفسي المؤجج للمشاعر المتعاكسة فيما بينها، كالخوف والطمأنينة، الرعب والأمان... لنجدها عاملاً رئيسياً في قوقعة وانعزال الفرد وجماعته. عدا عن ذلك، تعتبر الأديان المؤثر الأكبر في تجميد الفكر الإنساني وخلوّه من الإبداع والإكتشاف، فكما نعلم أن الإكتشاف هو أساس المعرفة القائم بحد ذاته على مبدأ النقض والتشكيك، مما يعني أن التخلي عن مبدأ النقض هو تخلٍ عن الإكتشاف وبالتالي عن المعرفة أيضاً، لأن المعرفة ناتج استكشافي، والاكتشاف حصيلة إستفسارات عدة لملاحظات وأفكار شتى للواقع الخارجي، ومن هذه الحصيلة تتأسس الفرضيات لإنشاء النظريات فيما بعد ووضع البراهين لإثباتها في مرحلة لاحقة.
 من هنا لا نستطيع القول: إن الحقائق التي نتخذها كمرتكزات لحياتنا قائمة على أسس سليمة وصحيحة لأنها منبثقة من تجاربنا النفسية المتزاوجة مع جزئية إدراكنا للمحيط. لذا علينا أن نتبنى فكرة الهدم والبناء مجدداً أي تبني القناعات القائمة على أساس أنها قابلة للتحول والتغير ككل شيء متغير في هذه الحياة منذ نشأتها وتطورها، وذلك لأن حواسنا ونظامنا العصبي مرتبط بالتجارب الإنسانية الواعية والملاحظات المتكررة.
من هذا المبدأ علينا أيضاً التوجه نحو ربط العلوم فيما بينها، أي دراسة النظريات والإطروحات كاملة وجمعها وإيجاد التقاطعات لتحقيق قفزات أكثر إتساعا وكسب إدراك يتجاوز المفهوم الإنساني ليشمل العناصر الطبيعية في الحياة، وعندئذ نستطيع فقط الإقتراب من إنشاء علاقات مترابطة لامتناهية تلم شمل الوعي الإنساني.
مما لا شك فيه أن كل منا يختلف في إدراكه للأشياء وللخارج الواقعي، لأن الإدراك نفسه مبني على تمثيلات عقلية مرتكزة على قناعات وتفاسير ملخصة بـ "الأنا". ولذلك، علينا أن نسعى دوماً نحو إعادة الحسابات الموجودة في هذا المبنى، وهذا لا يتم إلا من خلال النقد والمحاولات المستمرة في تقبل الأفكار المختلفة عنا وقبول الخطأ للوصول إلى صواب جزئي، فكلاهما متلازمان، وهما إنعكاس لمحاولات جمة هدفها الوصول إلى وعي أكبر لكل ما هو خارج عن إدراكنا الأنوي.
وبما أن الإدراك مستند على القناعات الآتية من ثقافة الجماعة، وبما أن الجماعات الدينية تستلهم أسسها وقدراتها التحليلية من فرضية الإله والروحانيات، يحق لنا إثارة الإستفهام حول موقف العلم منها، فمثلاً، ما كان يثير تساؤلنا في الماضي عن وجود وعي سابق للمادة، دخل اليوم عند كثير من العلماء في سباق البداهة، فلا وجود لوعي يسبق المادة، فالنفس هي ناتج تجارب عديدة مرتكزة على أساس بيولوجي، ومكوناتها من ذرات والكترونات، موجودة في الطبيعة نفسها، فنحن جزء صغير من هذه الطبيعة ووجودنا لا يشكل فيها إلا وجود واع بسيط.
 قد يكون من المستحب أن نقوم بتصليح بعض المفردات المتداولة، فالأجدر بنا مثلاً وصف الروح بالنفس لأن جسدنا الحي مرتكز على تجارب نفسية، فالحياة موجودة في كل الذرات والإلكترونات المتبعثرة في الكون، وليست حصراً علينا. فيحق لنا أن نَصف المادة على أنها عبارة عن جزيئات للحياة وما يفرقنا نحن الكائنات الحية عن هذه الجزيئات، هو اجتماع المواد مع بعضها لتكوين أحاسيس نستطيع من خلالها الألم والاكتفاء.
ثمة من سيتساءل عن ضرورة الألم لدينا ليعطي تفسيراً غيبياً، لكننا ندرك أن الألم هو ضرورة وقائية للبقاء والاستمرار في هذه الحياة، فكما نعلم أن النظام العصبي عند جميع الكائنات الحية تمكن من تطوير نفسه لحاجته الملحة في درء المخاطر عنه.

قبل أن أخوض في دراسة تفصيلية لعملية الوعي والإدراك، أرغب في التوقف قليلاً لأتكلم أولاً عن معنى الحياة نفسها.
___________________________________________________________________________________________________
*84-الإدراك الغشتلطي والمستوحاة من علم النفس الشكلي، يعني تنظيم الأحاسيس إلى أنماط عدة حاملة لمعان مختلفة بهدف ترجمة المعلومة الحسية إلى مفاهيم عقلية.
*85-في كتاب "سايكولوجي، الفكر، الدماغ والثقافة" لدرو ويسترن صفحة 259، أجريت تجارب عديدة على حلزون "ايليسيا" (تجربة بيلي وكاندل عام 1995) وتجربة (مارتينيز وديريك عام 1996)حيث اتضح للباحثين في هذا المجال ان الأشكال التقليدية للتعلم تحرض على التغيير على مستوى المشابك العصبية. وهناك شرح مفصل صفحة 145-146 تحت عنوان المحيط، الثقافة والدماغ حيث تشرح الدراسات العصبية دور المؤثرات الاجتماعية والثقافية وكل مؤثرات المحيط على الدماغ وخصوصاً على المناطق اللحائية التي تشارك في عملية التفكير والتعلم (تجربة داماسيو عام 1994) و(تجربة غوتو عام 1971).
*86-التمثيلات العقلية عبارة عن تمثيل لصورة أو مفهوم أو فكرة أو حالة يمكنها أن تكون واقعية أو خيالية، فهي تلك الحال المعبرة عن صورة يعيشها الفرد لحالة معينة تتقاطع بها الأحاسيس والذاكرة، فهي مجموعة محتويات مرتبطة مع بعضها البعض.