القسم الثالث الحلقة 5: ميكانيكية الإدراك






بعد سنوات عديدة، أطلت علينا نظرية "كوبينغ" لـ سوزان فولكمان وريتشارد لازاروس(*82) لتوضح لنا عدم سلبية الفرد تجاه الوسط المحيط، فهو لا يخضع سلباً للإلزامات الخارجية بل يتفاعل معها بنشاط مما ينتج عنه تلقي إدراكي ومن ثم تمثيل عقلي للحالة مما يتيح له وضع استراتيجيات للتأقلم، فهناك استراتيجيات متجهة نحو المشكلة وأخرى نحو المشاكل المحرضة للمشكلة.
نلاحظ اليوم وجود بعض المدارس النفسية التي تقوم على أساس البيولوجيا والأعصاب وهذا ما يسمى بعلم النفس العصبي أو البيولوجي، حيث إن القاعدة البيولوجية هي أساس التجربة النفسية، لنجد أن نشاط مليارات الخلايا تهيئ القاعدة العضوية للتفاعلات النفسية. فالأعصاب أو الخلايا العصبية تشكل وحدات قاعدة النظام العصبي. إذ إن التلقي الإدراكي يتم دائماً عبر الإحساس الذي يحث الأعضاء الحسية على التقاط المعلومة الخارجية لنقلها إلى الدماغ، كي يكون الإحساس عملية تمهيدية لعملية الإدراك، فهو قبل كل شيء (الإحساس) عمل ترجمي يحوّل الطاقة الداخلية إلى أداء. في ذات الوقت يقوم الدماغ بجمع المعلومات وتنظيمها ليباشر بعدها ترجمة الأحاسيس، وهكذا تتحول الأحاسيس إلى لغة نفسية معينة.
إذن، الإدراك عبارة عن عملية بناءة وإبداعية، فمن منظور تطوري نجد أن القدرة على ترجمة الأحاسيس كالسمع والرؤية... هو ناتج عن ملايين محاولات التأقلم. فدقة بناء النظم الحسية ناتجة عن تطورات عديدة، فإذا أخذنا على سبيل المثال الرضيع الذي يستطيع فك الإشارات التعبيرية الموجودة على وجه والديه، نجدها تنعكس عليه بصورة مباشرة كإشارات داخلية نفسية. كما نلاحظ أيضاً قدرة الإنسان على تطوير أحاسيسه على مدار الزمن من خلال التجارب والملاحظات التي يمر بها، فالشعور ليس هو فقط ردة فعل كما كان متعارفاً عليه، بل هو منبع دراسة وغرض إتصال.
في البدء انقسم علم النفس إلى موقفين مغايرين، إلا أنه اليوم بدأ بجمع نظريات عديدة تتلخص بدور المعطيات الحسية وتأثير التجربة وقدرتها على تنشيط الآليات الوظيفية الوراثية.
إذن، يعتمد الإدراك على عمليتين في وقت واحد؛ الأولى: خلق المحيط لأنماط من الصور في الدماغ ومن ثم معالجتها من خلال الأحاسيس المتفاعلة مع المعلومات، لأن جميع المفاهيم المتبناة من قبل مجتمع ما، نتجت من خلال التعاطي النفسي لأفراده وقدرتهم على معالجة المعطيات الخارجية.
لننتقل الآن إلى مفهوم النفس الإنسانية، فنراها منفلتة من واقع لا ندركه بشكل كامل فإدراكنا للخارج مازال جزئياً والبحث عن حقيقة نفسية ما إن هي إلا صوراً تفاعلية تندمج بها المشاعر والأحاسيس، وكل ما يتداخل في لاوعي الإنسان مع الواقع الخارجي لإتمام عملية الإندماج وإضفاء صيغ ومفاهيم هي بحد ذاتها لا تشكل واقعاً ملموساً.
فليس هناك علاقة واضحة ما بين الواقع الخارجي والداخلي، فالصورة النفسية ليست بصورة ولا بتسجيل مطابق عن الخارج، بل هي علاقة منطقية بين هذين العالمين ويتجلى هذا بالقوانين الثلاث الموضوعة لـ"ويبر، فيشنر وستيفنز"؛ إذ إن هناك علاقة ما بين الحاسة والمحفز الفيزيائي المنظم والمرجح في آن واحد.

من وجهة نظر خاصة، أعتقد أن توسع الإدراك من أجل التحلي بوعي أكبر يعتمد على الإرادة والرغبة الفردية في عدم تبني "الأنا" المعرفي الشخصي كمرجعية ثابتة، كما أن الفرد الساعي دوماً لاثبات "أناه" في كل ما تحمله من نموذج ثقافي ومعرفة خاصة وتجارب وخيال، لا يمكنه أن يتجاوز هيكلته للتوصل إلى إدراك أكبر ليجعله في حالة إصغاء وتفهم "للأنوات" الأخرى المختلفة عنه. فتحجيم "الأنا" ليس بالضرورة نسف الذات، بل على العكس هو محاولة لفهمه كي تخرج "الأنا" الضيقة من أفخاخها التي تحاول حصر الفرد ضمن حلقة معرفية محدودة.
_________________________________________________________________________________________________________
*82-كتاب سايكولوجي، الفكر، الدماغ والثقافة ل"درو ويستون" الفصل الحادي عشر تحت عنوان "الشعور، الضغط والمواجهة" صفحة 619.