القسم الثالث الحلقة 4: عملية توحيد الرمز الأسطوري أو الديني بالفرد



يخضع الرمز إلى عملية تضخم عند الأفراد لتنشأ عنه وبشكل مباشر عملية ارتباط عاطفية تؤجج بشكل مكثف عند أفراد الجماعة، هذه المشاعر تربط الأفراد والجماعات بالرمز ليشكلوا كياناً واحداً، فالصورة الخارجية (الرمز) والتي نشأت عن انعكاسات نفسية نراها مرتبطة بالداخل النفسي من خلال وسيط الشعور، فلا يمكن إنهاء الرمز عند الأفراد اللاصقين به إلا من خلال إنهاء المشاعر الرابطة بينهما والقضاء عليها.
أعطى ميكائيل بيرسينجر تفسيراً لعملية التصاق الأنا الفردية بالرمز حيث تتوحد المشاعر ما بين الأنا والرمز الشكلي (الله، أو الوعي الكوني، أو إرادة خارقة واعية...) لكل الأزمنة والأمكنة. ينشأ عن هذا التوحد أحياناً شعوراً بالفردية والتميز عند الفرد ليلجأ بعدها وضمن ظروف معينة محاولة الاحتكاك بالرمز، ولقب بيرسينجر هذه الحالة بـ"تجربة الإله".
تنبع هذه التجربة من إرادة فردية لاواعية تهدف للاتصال المباشر مع الإله أو مع أية قوة أخرى يؤمن بها الفرد، ويتم ذلك عن طريق صور دفينة مسجلة في الذاكرة. فالطفل الذي تعلم التعبد لإله معين، تتسجل في ذاكرته صور عقلية مستمدة من الكتب الدينية التي تخص إلهاً أو خالقاً أو طاقة كونية، وهكذا تتداخل الصور الدفينة المختزنة مع شعور بالفردية والرغبة في التميز ليصبح الرمز المحرك الأساسي للأفراد فيتميزون من خلاله ويستمدون طاقتهم منه. في هذه الحالة ليس من المستغرب أن يرى المسيحي مسيحه وهو يخاطبه أو يباركه في المنام أحياناً، ليراه عند اليقظة في أحيان أخرى وفي بعض الحالات التي تشبه الأحلام النهارية كتعويض لحالة نقصان أو عدم اكتفاء من الذات، وشبيهاً لهذه الحالة، يتصل البوذي مباشرة ببوذا لتتم حالة التقمص. فكل فرد يدخل بالإحتكاك مع إلهه أو مع الرمز الذي يعبده من خلال المعتقد الذي يشكل أساس التجربة.
بالطبع لا نستطيع تعميم "تجربة الإله" على جميع المؤمنين، لانها تستند إلى ظروف عدة منها الأرضية البيولوجية التي تحدد مسار السلوكيات والحالة النفسية الناتجة عن ظرف معين واكتساب الفرد للثقافة المشروطة من محيطه.
يقوم الرمز بالاندماج مع شخصية الفرد نفسها كي يتم التداخل مع الأنا الفردية، فينشأ عن هذا الإلتصاق حاجة نفسية في المنافسة ما بين الأفراد المنتمين إلى نفس الرمز، فحاجة الفرد في التميز عن الآخر تدخله في دائرة السباق التي تحثه على المبالغة بتنفيذ القواعد الدينية للرمز من خلال العبادة والصلاة، فتنشأ عن هذه الحالة عند الفرد حالة إدراكية داخلية واهمة لتتسع الهوة فيما بعد ما بين الإدراك الداخلي والواقع الخارجي. ولتوضيح هذه المسألة، سأتطرق إلى آلية التعرف على الأفكار المختلفة بين الأفراد والجماعات تحديداً، فمثلاً، ومن ناحية عصبية يتم التعرف على وجه ما ومعرفة درجة صلته بنا عن طريق المنطقة اللحائية للدماغ، فهي التي تقدم لنا هوية الشخص المعني، بينما تقوم منطقة أخرى في الدماغ باستخراج معلومات القرابة والصلة، وهذا يتم عبر عمل مشترك للمنطقتين من خلال الألياف اللحائية التي تمد وتغذي التدفق الواعي للمعطيات.
من هنا نستطيع القول: إن استيعابنا أو إدراكنا للأمور الخارجية المرسلة من الذوات الأخرى، عبارة عن أنوات صدامية أو متوافقة فيما بينها، وذلك يعتمد على عامل المورثات والثقافة والمحيط المشترك الذي يجمع بين أفراد الجماعات، أي أن "الأنا" الشخصي وما يتضمنه من مفهوم واسع للنصوص والكلمات والعبارات، يرتكز وبالتحديد على القاعدة البيولوجية أولاً، ومن ثم على المعلومات والتجارب المخزنة في ذاكرتنا الطويلة الآتية من ثقافة المحيط. ولا شك أيضاً أن عامل الخيال الفردي يلعب دوراً هاماً في فهمنا وتعاطينا مع الأمور من خلال "الأنا" المركبة، وهذا ما يلقب أيضاً بالنموذج الثقافي الذي تكلم عليه الأنتربولوجيون.
عودة إلى هذه الصور والتي تحمل في طياتها تفسيرات شخصية ومن ثم جماعية والقناعات حيث يبدأ الرمز بالانتعاش داخلها ليكتسب قوة مستقلة في عقل الفرد والجماعة، ومن بعدها يقوم باستلاب المنطق التحليلي عند الفرد، مما يؤدي إلى توقف الإدراك عند حدود لا تتجاوزه ويبدأ العجز الفهمي لما هو أبعد وأنضج من رمزه. هذه الحالة تشبه إلى حد بعيد حالة الفصام النفسي الفردي إلا أنها تبقى أشد خطورة منها لأنها تصيب الجماعة برمتها. فنستطيع تلقيبها هنا بحالة فصام جماعية معدية لأفراد الجماعة، لتشكل بعدها أسساً لثقافتهم، وتقتحم تالياً مورثاتهم التاريخية، فتصبح عملية التخلص منها أمراً صعباً للغاية، وفي هذه الحالة، تصبح الجماعة نظاماً مغلقاً على نفسه رافضاً للتغيير والانفتاح على ثقافات أخرى متشبثة بمفاهيمها مجاهدة في سبيل الحفاظ عليها.
يعتبر النشاط النفسي العقائدي من أهم الركائز المعتمدة من قبل الجماعة لترسيخ حالة من الخدر تشمل جميع أفرادها وذلك من خلال قيم ومعايير ومفاهيم لا تصب إلا في خانة التسلسل الهرمي السلطوي للجماعات. هذا النشاط يستند أولاً إلى عمليات إدراكية فردية حيث تمتزج جميع العوامل السيكولوجية والرغبات اللاواعية الجماعية والظروف المحيطة المؤثرة على توجيه إدراك أفرادها باتجاه يصب أيضاً في خانة التأقلم.
نظر فرويد إلى النشاط النفسي على أنه يبدو من جهة وكأنه شكلاً فرعياً من أشكال الروحانيات البدائية ومن جهة أخرى ومع اعتماده على رؤية ايمانويل كانط، بدا له وكأنه تصحيح للعمل الأولي في التلقي الخارجي استناداً منه لمقولة كانط التي تحذرنا من ضرورة تعاطينا مع الإدراك الخارجي الخاضع بدوره لظروف داخلية نفسية.

قبل الخوض في التفاصيل والعوامل المؤثرة، دعونا نقوم بعملية تجزئة، محاولة مني لإيضاح بعض الأمور عن طريق تفكيكها قبل القيام بجمعها لاحقاً، وسأبدأ الآن بشرح عملية الإدراك بشكل عصبي.
_________________________________________________________________________________________________________________________