القسم الثالث الحلقة 3: المنابع النفسية الأولية

رندا قسيس سراديب الالهه


  طرأت على الإنسان تحولات نفسية جذرية هامة تراكمت مع مرور الزمن لتأخذ أشكالاً مختلفة وتكتسب ميزات عدة، فأهدافها الأولى الباطنية اكتسبت خصائصَ وميزاتٍ تم استبدالها لتبني أهدافاً أخرى تصب في خانة التأقلم مع المحيط الخارجي المتغير من جراء عملية التحول المؤثرة على الدوافع النفسية الأولى.

   هذه الدوافع أو المحفزات النفسية الأولية*(78) (التي تصب بحاجة الجسد، أي بمعنى الغرائز) والآتية من اللاوعي تشكل المحرك الحقيقي لتطور النظام العصبي. فإذا نظرنا إلى المحرك نراه يتألف من دافع أو محرض، ليكون العامل الحركي الفعال الذي يهدف إلى تحقيق اكتفاء الدوافع النفسية الأولية والمتعلقة بالغرائز، فهو مرتبط بحاجة الجسد (المحرك الأول).


   إذن، نستطيع القول: إن التصرف الغرائزي هو حالة نضج لما نتلقاه من خلال الحواس والدوافع، لينتج عنها ميكانيكية داخلية تربط الحواس والدوافع والحاجة معاً، من هنا نستطيع القول: إن التصرف الغرائزي ليس منتوجاً تعليمياً بل هو حالة نضج عضوية منظمة.


    اعتبر رونالد فليتشر أن الغرائز تحدد الأهداف لتخدم حياة النظام الفيزيولوجي من ناحية الغذاء والتكاثر، فمجموع الغرائز (المصاحبة لردود فعل أو عادات أو أفعال ذكية) تسمح للإنسان أو للحيوان بالتأقلم مع المحيط الخارجي الموجود به، أي الإستطاعة على الحياة وتأمين حاجاته الجسدية. لهذا نستنتج: أن الغريزة تقود إلى ردود فعل متنوعة ومناسبة للكائن الحي حسب المعطيات الخارجية المحيطة به. 


   تتمثل الغرائز أو الدوافع بطاقة (كالدافع الجنسي)، لتنتقل، حسب نظرية فرويد، من الدافع الجنسي إلى أهداف وقيم اجتماعية عليا. وهو ما اعتبره فرويد العامل الرئيسي في نشوء الحضارات، أي أن الحضارة بحد ذاتها قائمة على قمع الغرائز وخصوصاً الغريزة الجنسية، فهي تساهم في التحول النفسي*(79) لاكتساب قيم وأخلاقيات جديدة، إلا أننا اليوم نستطيع تسليط الضوء على عامل الوعي عند الإنسان لتأسيس قيم وأخلاق واعية من دون عملية القمع للغرائز، أو بمعنى آخر التصالح ما بين الحاجات البيولوجية ومبدأ الحضارة المعتمد والمؤسس على أيدي الأفراد والجماعة.


   أعود إلى الدوافع النفسية الأولية، والتي اعتبرها كارل غوستاف يونغ كامنة في الصور الأصلية المسجلة في نفس الإنسان. لهذا نراه قد حدد قطبين في النفس هما: القطب الأول المؤلف من غرائز ودوافع، أما الثاني فيتكون من صور أصلية أو رموز بدائية موجودة عند جميع الكتل الجماعية، وهذا ما أسماه باللاوعي الجماعي.  


   هذه الأرضية المؤلفة من رموز تقود الإنسان إلى تحديد المصالح حسب البيئة الموجود بها لبناء سلوكيات جديدة مغايرة، إلا أن عملية تأقلم غرائز الأفراد والجماعات مع المحيط الخارجي قد تستعصي أحياناً. وهنا يعتقد يونغ أن الرموز الأصلية تتظاهر بشكل خفي للإعلان عن نفسها من خلال جملة أحداث جماعية لاواعية تؤثر على السلوكيات الأخلاقية أو الركائز اللاواعية، مما أدى في مراحل تاريخية إلى نشوء وولادة الأديان التي نتجت عن انخفاض المتطلبات الغرائزية الناتجة بدورها عن انسحاب الطاقة من الغريزة لصالح محتوى نفسي آخر، أي أنه يتم استبدال الحاجات البيولوجية بقيم وأحكام تصب في مصلحة الإطار الجماعي، ليخلق آليات فعل وتفكير تقوم بتعزيز التسلسل الهرمي للجماعات. ومن هنا تبدأ عملية خلق إيحاءات عقائدية معينة مستمدة من المنابع النفسية، ليتم خلق رموز متقمصة لشخصيات مقدسة كالإله والرسل والبطل الأسطوري إلا أنه وفي حالة توقف الجماعة عند مرحلة معينة وعدم تكيفها مع المتغيرات الخارجية يجعلها تقع في مطب تكرار المرحلة التي وصلت إليها وثبات النموذج الثقافي واستعصائه عن فهم وإدراك المتغيرات. وهنا تبدأ عملية تضخيم القبيلة لبطلهم الأسطوري إن كان بطلاً أو رسولاً أو نبياً والمرافقة لفروض وطقوس معينة تقيد الفرد كي تضيف على الفرد مشاعر ضرورة الانتماء لجماعته حيث يصبح الفرد في حالة أسيرة للمعتقدات الجماعية، فيفرض على نفسه وعلى الآخرين قيوداً جديدة يصعب كسرها والانفلات منها. وهنا تزداد لدى الفرد مشاعر الحماس للجماعة وللمعتقدات الجماعية مما يؤدي إلى انعزال الأنا الجماعية ومنها الأنا الفردية، فتنعدم الجسور ما بين الأنا الداخلية والخارج المختلف المتمثل بجماعات ذات ثقافات مختلفة، وتنمو مشاعر الشوفينية التي هي وجه آخر للعنصرية والطائفية. تعتبر هذه المشاعر شكلاً متطوراً عن أشكال "الإثنية المركزية »*(80)، والتي تستمد أرضيتها من الـ "سينوفوبيا"*(81).


  مما لا شك فيه أن الشوفينينة عبارة عن سلاح في أيدي بسطائها الذين لا يمتلكون شيئاً مميزاً، فيسعون للافتخار بأديانهم وأوطانهم وقوميتاهم وقوانينهم، مما يؤدي إلى ترسيخ سلوك الإنعزال الجماعي والفردي، ليتحول هذا السلوك عند الأفراد إلى حالة دفاعية عن الذات من قبل الأفراد والجماعة.

  ويتراكم على أثر هذا السلوك حالة من الخوف تصيب الإنسان منها الخوف من هدم البناء الذي تأسسس من قبل أجداده وطائفته والناتج عنه ارتباط الأنا الفردية بالأنا الجماعية حيث تفقد الأنا الفردية جميع قدراتها على التميز. وهذا ما يؤدي إلى عجز الفرد عن تحديد المصدر الرئيسي لجميع مشاعر الأرق، ليعتقد أخيراً إن جميع قلقه وعزلته آتية من الخارج، لتتحول فيما بعد مشاعر الأرق والخوف إلى مشاعر تعالي على الآخر.

   وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جميع الكتل الجماعية البدائية تنظر إلى الجماعات الأخرى على أنها أحط منها قدراً، وهكذا نرى التشابه بين الهنود الأمريكيين الذين يعدون أنفسهم "شعب الله المختار" وبين القبائل الهندية التي تطلق على نفسها صفة "الناس الذين لا ناس سواهم" وبين الشعوب المنتمية إلى الديانات الإبراهيمية. _______________
____________________________________________________________________
 *78- يأتي المحفز النفسي كجواب من جراء تفاعل المحيط الخارجي مع الداخل الإدراكي، ليكون فعلاً محركاً يتفاعل مع محيطه بهدف الحفاظ على توازنه البيو-نفسي وهيكلة النظام العضوي داخل هذا المحيط.
 *79- جميع الآليات التي تتحكم بمسألة إشباع الحاجات العضوية والبيئية تصنف بالدوافع الغريزية والتي تشكل دوافعاً نفسية تتراكم عبر الزمن لدى الإنسان لتملكه ذاكرة طويلة الأمد كي تستطيع حفظ الشريط التجاربي لحياته. *80- الإثنية المركزية وهو مصطلح إثني. فمن ناحية انتربولوجية يعبر هذا المصطلح عن شعور استعلائي لدى الأفراد حيث يعتقدون أن أمتهم أو جنسهم الدين ينتمون اليه هو الأفضل بين كل الجماعات.
 *81- تدل ال "سينوفوبيا" عن مشاعر كره للغرباء الناتج عن الخوف من الغريب. نشأت ال "سينوفوبيا" أو شعور كره الغريب منذ نشأة الجماعة، لهذا نجده عند الكائنات الحية التي تعيش بشكل جماعي.