القسم الثالث الحلقة 2: القواعد الأساسية للنظام "الايكزوغامي"


   أطل علينا فرنسيس جيمس سبنسر ووالتر بالدوين جيلين بدراسة التنظيم الجماعي للقبائل الأسترالية، ليجدا أن هذا النظام وما رافقه من تنظيم للزواج خارج العشيرة والمسمى بـ"الايكزوغامي" والذي كان مرافقاً للنظام الطوطمي والذي قسم نفسه بالبدء وفي المرحلة الأولى إلى فرقتين؛ الفرقة الأولى وتضم أولاد الأم الواحدة إناثاً وذكوراً. والفرقة الثانية تضم رجال القبيلة، ليتم التزواج فيما بينهم. فالهدف الأساسي من تقسيم القبائل إلى فرقتين هو الحد من تزاوج الأم مع أبنائها ومن ثم الأخوة مع الأخوات. إلا أنه في مراحل لاحقة قسمت القبيلة نفسها إلى أربع أقسام ليتم منع التزواج بين الأب وبناته. أما في مراحل متطورة فقد قسمت بعض القبائل الطوطمية نفسها إلى ثمانية فرق وذلك للحد من زواج القربى.

   هذا النظام "الايكزوماغي" وكما يظن جيمس فريدزر حل محل نظام الطوطم البدائي الذي كان يقوم على مبدأ فردي أي اختيار طوطم الطفل حسب الصدفة وذلك لجهل الأب في تلك الحقبة أبوته لأطفاله.

إذن: حل النظام "الايكزوغامي"، وهو نظام الفرق للتزاوج مكان النظام الطوطمي الفردي البدائي في بعض القبائل، وذلك من وجهة نظر فريدزر. أما عند قبائل أخرى، فقد تم تداخل النظام الفردي مع نظام الفرق لتتبنى القبيلة النظام الطوطمي الجماعي. وبالرغم من وجود بعض الفوارق والاختلاف بين بعض الأنتربولوجيين بالنسبة إلى الطوطم الفردي إن كان هو الذي مهد للطوطم الجماعي أم العكس (تطرقت اليه في القسم الأول)، إلا أننا نستطيع أن نُجمع على أن النظام الطوطمي كان مهد النظم الاجتماعية والدينية.

   ومروراً على عادات الحياة عند القرود العليا لمقاربتها فيما بعد بالإنسان البدائي الذي عاش ضمن جماعات متنقلة، نجد تشابهاً بينها وبين الإنسان، كغيرة الذكر الأكبر عمراً المحددة للعلاقات الجنسية والمانعة للاختلاط الجنسي بين أفراد القبيلة. لهذا نجد أن بعض الدراسات ترتكز على أن البشر قد عاشوا بدائياً ضمن مجموعات بشرية، فكان لكل رجل أنثاه أو أكثر في آن واحد. فامتلاك الذكر قوة جسدية تشبه قوة الغوريلا، ساعدته في امتلاك عدة نساء. كما أن شعور الغيرة عند القرود مشابه لشعور غيرة الإنسان البدائي العاجز عن التحكم بمشاعره. في حين نجد تأكيد الأنتربولوجي ج.ج.اتكينسون لنظرية شارل داروين حيث برر أسباب تحريم التزاوج، ونسبها إلى العامل النفسي وهو غيرة الإنسان ورغبته في السيطرة على زمام الأمور، ليصبح هذا العامل مع مرور الوقت شكلاً قانونياً للتنظيم الاجتماعي بل يصبح قانوناً واعياً يحدد العلاقات فيما بينها.

   من ناحية أخرى، نجد أن فرويد وفيرينكزي استندا إلى تجارب سريرية، فبعد الفحوص السريرية التي أجرياها، وتحليلهما لظاهرة فوبيا الحيوان عند الأطفال، توصلا إلى تفسير السبب الرئيسي لكراهية الأطفال لحيوان معين. حيث يمثل الحيوان سلطة الأب لدى الطفل، ليتم طرح جميع المشاعر العدائية لديه تجاه والده على الحيوان والاحتفاظ بالمشاعر الطيبة تجاه الأب. وبذلك ومن تحليل أسباب هذه الفوبيا استمد فرويد حله في فك اللغز الطوطمي، كما ارتكز فيها إلى نظرية داروين مستنتجاً أن طرد الأب الأول لأبنائه نم عن غيرة على نسائه، لحين عودة الأبناء لاحقاً للانتقام من أبيهم، كي يتم قتل وأكل الأب إلا أنه لاحقاً بدأ العراك بين الأخوة لنيل النساء، ليصلوا فيما بعد إلى اتفاق وقناعة عبر أجيال لاحقة للحد من التزاوج ما بين الأخوة والأخوات من أجل الحفاظ على القبيلة.
لم يفت على فرويد أن يتطرق لشعور الذنب الذي بدأ يتفاقم مع الأجيال من جراء عملية قتل الأب وأكله والرغبة في المصالحة معه، مما دفع إلى فصل الأب عن الطوطم لاحقاً وإعطائه قوة لا محدودة وبالتالي ولادة أرضية مناسبة للأديان التي أتت لاحقاً.

   رافق تحريم العلاقات الجنسية بين الأهل والأولاد عاملاً نفسياً دفع القبائل إلى اللجوء للطوطم، لطرح جميع هذه المشاعر النفسية المتصارعة فيما بينها، وذلك رغبة في المصالحة مع الأب وتخفيف حدة الشعور بالذنب، فالطوطم يمثل القوة الأبوية. فهو من جهة يقوم بالمصالحة بين الأب والأبناء، ومن جهة أخرى يقوم بتذكير الأبناء بانتصارهم على الأب من خلال القيام بمراسيم الذبيحة لقتل وأكل الحيوان الطوطمي جماعياً. ليستنتج فرويد في فرضيته هذه على أهمية المصالحة مع الجريمة المقترفة من ناحية الأبناء والتي أدت إلى تقديس الطوطم. كما علينا ألا ننسى أيضاً أن الحيوان الطوطمي لم يقتل أو يؤكل بشكل فردي لأن فعلاً كهذا يعتبر خرقاً لعرف يؤدي الى عقوبة صارمة. أي أننا نستطيع من خلال هذه النظرية الاستنتاج أن تحريم القتل والعقاب قد تبناه الأفراد في هذه الحقبة ليأخذ بعداً أوسع مع الأجيال القادمة، فإذا دققنا أكثر في هذه الفرضية، نرى أن قتل الأب وأكله قد تم ترميزه الى حيوان طوطمي لتتحول هذه الصورة ومع مرور الأجيال إلى صورة الإله الذي ولد من فكرة الطوطم في حقبة متطورة عليا من الشعور الديني. ويجب القول: إن عملية قتل وأكل الأب والشعور بالذنب تجاهه قد خبا عبر الزمن ليخلي السبيل لمشاعر الحب الأولى تجاه الأب لكي يتم الاستشعار بمرور الزمن بتلك القوة اللامحدودة الأبوية الآتية من الماضي البعيد فيرفع الأب إلى مرتبة الإله.

   مما لا شك فيه أن للجماعة الأثر المباشر والمؤسس الأصيل للمبادئ الأخلاقية الأولى، فكما وجد فرويد أن أساس الأخلاق يستند إلى ركيزتين أساسيتين عند الجماعة. ركز ادوارد اوسبورن ويلسون على مجموعة أخلاق أولية بيولوجية وجماعية المنشأ موجودة عند الكائنات الحية، كتقسيم العمل الجماعي، التسلسل الهرمي للجماعة، توزيع الأدوار على أفراد الجماعة، حماية الأرض أو الشعور بالكراهية تجاه الغريب. وهكذا يمكننا أن نقاطع هذه النظرية مع فرضية فرويد التي تقول إن الأساس هو الغريزة الجنسية والتي تتحول إلى قيم جماعية مثلى. فبما أن أساس الأخلاق هو التطور وبما أن بعض السلوكيات يتم اكتسابها لتتحول إلى صفات يتم توريثها، حسب ضرورة الحياة والاصطفاء الطبيعي الخادم لمبدأ البقاء والاستمرارية، نستطيع القول: إن الغرائز الجنسية عند الكائنات الحية تطورت مع مبدأ الاصطفاء الطبيعي لتتحول إلى أسس بيولوجية، فبما أن الانسان يتسم بخصائص نفسية مركبة، فهو لا يرث سلوكياته مئة بالمئة كالنمل، مع الإقرار بأن هناك تأثير ما للموروث الجيني بنسبة معينة. ومن جهة أخرى فهناك سلوكيات مكتسبة من المحيط الخارجي، أي ثقافة مجتمع، تربية...الخ، وبذلك يتم تسجيل السلوك المكتسب في نظامنا الوراثي من خلال الاصطفاء الطبيعي ليتم بعده توريثه بنفس النسبة إلى الأجيال القادمة. أي أن الإنسان قادر على تحويل هذه الغريزة الجنسية إلى قيم اجتماعية يتم توارثها عبر الأجيال مع إمكانية تحولها المستمر إلى قيم أخلاقية تتغير تدريجياً مع مرور الزمن. فمورثة العلاقات الجنسية بين أفراد العائلة الواحدة لم يتم إلغاؤها كخيار حضاري إنساني بل ألغيت كنتيجة داروينية، كما فسرها ويلسون.

   وبما أن العلم ما زال عاجزاً عن إثبات أو نفي إشكالية توارث السلوكيات عن طريق الجينات، يحق لنا أن نتساءل الآن عن آلية اكتساب الإنسان لصفات سلوكية خارجية؟

   بعد تجارب وملاحظات عديدة اتضح أن جزءا من السلوك هو وراثي. فالذكاء والصفات الشخصية وبعض الأمراض العصبية تحدد من خلال عوامل جينية. أي أن السلوك يخضع إلى قاعدة بيولوجية وهي بدورها تخضع للاصطفاء الطبيعي*(77)، وبهذا المنحى نستطيع أن نتكلم عن اكتساب سلوكيات خارجية فرضتها علينا البيئة بحكم عملية التأقلم، ليطرأ تحول جماعي في توارث القاعدة البيولوجية للسلوك، أي أنه لا يتم تغيير في القاعدة البيولوجية السلوكية الفردية الوراثية بل تتغير القاعدة البيولوجية السلوكية الجماعية عبر الأجيال. فالبيئة تنتقي سلوكيات أفرادها. وكذلك علينا ألا ننسى أن الظروف والتغيرات الآتية من المحيط تشكل حافزاً أساسياً لظهور بعض الجينات الضامرة، أو لضمور بعض الجينات الظاهرة؛ هذه الظروف والتغيرات تعتبر سبباً أساسياً في اكتساب صفات وسلوكيات جديدة لدى الجماعات المتأقلمة مع المحيط الخارجي.

   

   نعود إلى داروين وتوضيحه لنظرية التطور على أنها نتيجة تنافس بين الأفراد وتغير محيطي، وهذان بدورهما يقومان بتغيير القاعدة البيولوجية للسلوك في المجتمعات. فهناك تنوع كبير في أي تجمع لكائنات حية، إلا أن الاصطفاء الطبيعي يقوم بتصفية خصائص معينة لدى بعض الأفراد لصالح التأقلم مع المحيط. فقد أكد لنا علم البيولوجيا دور الاصطفاء الطبيعي لداروين كما أوضح لنا أن التغيرات التي تطرأ على الخصائص الوراثية مرتبطة بدورها بعملية الاصطفاء نفسها.
______________________________
________________________________________________________________
*77-تجربة سكينر عام ١٩٧٧ والتي برهنت على ان البيئة تنتقي وبشكل طبيعي جميع السوكيات الفردية التي تلائمها وتصفي أو تلغي ما لا يتناسب معها.