القسم الثالث الحلقة 1: القوانين والأعراف الأولى

سراديب الالهه رندا قسيس

   رأى فريدزر أن الإنسان قد خلق القانون وذلك لشعوره بأن اكتفاء غرائزه بشكل كامل كان ضرراً له من الناحية الاجتماعية، لأن الجماعة استطاعت إيجاد مصلحة لها تعاكس الاكتفاء الغرائزي الفردي وتعاكس الطبيعة نفسها. فنحن لا نحتاج لتعلم كيفية الأكل أو الشراب أو حتى تجنب
ملامسة النار، فهذه الأمور نملكها بشكل غريزي لضمان حمايتنا، فما تدافع عنه الطبيعة وتمنعه، لا حاجة لقانون أن يدافع عنه.

  أما كلود لاكاديك(*76)، ومع استناده على علم البيولوجيا الاجتماعية، قام بتثيت الحجج المتجهة نحو اعتبار الأخلاق مؤسسة على مجموعة إلزامات سلوكية يتبناها الفرد تحت تأثير الضغط الشديد الناتج عن هاجس القلق أو شعور الذنب أو الألم الذهني الآتي عن وعي ما، ليعتبر أن هذه الإلزامات أتت لتحد من إمكانيات الفرد.

في كتابه "القاعدة البيولوجية للأخلاق" يشرح لاكاديك، وباستناده إلى نظرية "داروين"، كيفية انتقال الإنسان من الحالة الفردية إلى الجماعية التي تمت جراء تأثيرات ناتجة عن محيطه الخارجي واندماجها بتفاعلاته الداخلية، من هنا استنتج أن الحالة الجماعية هي مجموعة إلزامات بيولوجية تمارس على أفراد الجماعة لتتحول إلى كوابح نفسية فيما بعد، فكما هو معروف أن الداخل النفسي والتغيير البيولوجي مرتبطان سوية.

  بدأت العلوم الإنسانية الحديثة في عصرنا هذا بالاعتماد على البيولوجيا كقاعدة أساسية وبالطبع على أساس نظرية التطور والاصطفاء الطبيعي، ومن هنا لا يبقى لدينا إلا أن نقول: إن الحياة الجماعية نشأت عن التطور الدارويني فهناك الكثير من الأمثلة لجماعات من القرود تعيش بتنظيم جماعي، إضافة إلى وجود 37 نوعاً من القردة يتبعون التزاوج الأحادي لأنه الأنسب لهم، فالحياة الاجتماعية مزيج من تركيبات نفسية متعارضة فيما بينها، فمنها ما يقوم على المنافسة ومنها ما يقوم على التعاون. ولولا المنافسة التي هي أساس التطور والتعاون الذي هو بدوره أساس التكاثر، لما نشأت التحولات في التركيبة النفسية الجماعية التي أدت وما زالت تؤدي إلى التطور المستمر.

  فهل نستطيع القول: إن المصلحة الجماعية هي أساس الأخلاق؟

   يرى فرويد أن الركيزتين الأساسيتين للأخلاق الإنسانية مرتكزتان على مبدأ التابو القائم على أساسين؛ حيث يستند الأساس الأول على ضرورة احترام الحيوان الطوطمي والثاني على تحريم العلاقات الجنسية بين أفراد العائلة.
لنبدأ أولاً، في تحليل الركيزة الثانية وهي تحريم العلاقات الجنسية بين أفراد العائلة، فمن وجهة نظره ومن خلال الاعتماد في هذا التحليل على نظرية "داروين" المتمثلة ببدائية السيد القوي، والمتمثلة بالأب الجامع لنسائه لينفي أبناءه خارج القبيلة ويعود ذلك إلى غيرته الشديدة وحبه لامتلاك أناثه، ويليها فيما بعد عودة الأبناء لاحقاً بعد معاناة وبعد اتحاد فيما بينهم بهدف البقاء والصراع من أجل الحياة حيث ساهمت هذه الحالة في تشكيل رابطة قوية فيما بينهم لتقوم بتوحيدهم وتوحيد قرار عودتهم إلى القبيلة السابقة، ليباشروا بالانتقام من ذلك الأب المتسلط. إلا أن عملية قتل الأب وأكله لم تمر من دون ترسيخ شعور تأنيب الضمير، نتج عنها عقدة ذنب تشكلت خفية لتتفاقم على مر الأجيال وتتحول إلى أداة خارجية تصوغ قوانين وأخلاقاً جماعية.

   استنتج فرويد أن فكرة الجريمة الأولى وما نشأ عنها من تحريم لعلاقات داخل الأسرة الواحدة يعود لشعور بضرورة حماية القبيلة بعد رجوع الأبناء لتفادي الصراعات فيما بينهم، وتجنيب القبيلة تفسيخ الروابط الاجتماعية، أي أنها وجدت لضرورة استمرار الجماعة، ودفعتهم لسن قانون من أجل تنظيم القبيلة وذلك في أول تحريم جنسي بممارسة العلاقات ما بين الأخوة والأخوات، لهذا نرى أن النظام "الايكزوغامي" قد أسس تحريماته الجنسية بشكل تدريجي، ليبتدئ أولاً في تنظيم نفسه.
_________________________________________________________________________________________
*76-كرس كلود لاكاديك حياته في تعليم الفلسفة في عدة جامعات بكندا، توفي عام 2000. أنجز ثلاث كتب وهم: الأسس البولوجية للأخلاق وكتاب القاعدة البيولوجية وكتاب الهيمنة ودور السوسيوبيولوجيا على الخداع وعدم المساواة. كما كان له العديد من المقالات المنشورة منها في جريدة الواجب و في مجلات علمية أخرى.