القسم الثاني الحلقة 12: الثنائي المحرم - الجزء الثاني




لقراءة الثنائي المحرم - الجزء الأول

   
   عودة مرة أخرى إلى أساطير قبائل "اندمانيز"، فقد لاحظ روهيم في رواية مختلفة لإحدى أساطير السحلية، والتي ترمز إلى القضيب المنتصب المتمثل بالبطل- الابن، أن السحلية تتميز بقدرتها على تجديد أعضائها والتي ترمز إلى خوف وخشية الابن من عقوبة الخصي، ليلجأ الابن إلى نفي هذه العقدة من خلال عملية إسقاطه على السحلية وذلك لتجديد عضوه الذكري بشكل دائم. وفي أسطورة أخرى لقوم "باتاك" في أندونيسيا، تقول الرواية "بعد أن تزوج أخ أخته فائقة الجمال، وفي يوم كانا في الغابة، رغب الأخ قطف بعض الفاكهة من على شجرة، إلا أنه التصق بالشجرة، ليلقى معه أخته وحرباء وحية وضفدعة وجرذ ذات المصير، فقد صعد جميعهم لالتقاط الفاكهة إلا أنهم عجزوا جميعاً عن الهبوط منها.

    دارت معظم الأساطير حول رواية واحدة، حيث اختلفت ببعض العناصر إلا أنها حملت ذات الرموز، فقد عثر روهيم في الأساطير الاندمانيزية على دلالات عديدية تؤكد وجود صراع ما بين الأب والابن، وبين الابن والأم والتي نجد آثارها في أسطورة "سوسانو- نو- ميكوتو" اليابانية*(73) وفي رواية أخرى لأسطورة "بيليكو" الأنثى الأم العاكسة للحماية والخطر من خلال دور الأم الثنائي، نجد أن "تاراي" الزوج- الابن أقل شأناً منها، ومكملاً لها من جهة أخرى. كما نلاحظ في أساطير طوطمية واغريقية وغيرها عنصر الحمل العجائبي للأم من دون الجماع المباشر مع ابنها والذي يدل على جماع مباشر تم بين أفراد العائلة الواحدة والذي تم تحريمه من الجماعة. 


   أكد لنا علم النفس التحليلي وجود رغبة جنسية للأبناء تجاه أمهاتهم، إلا أن الأساطير بينت وجود رغبة متبادلة ما بين الأم وابنها. وبما أن العلاقة ما بين الأم وابنها اتسمت بالتميز، فقد أصابها أول تحريم جنسي، أي قبل تحريمه ما بين الأخوة والأخوات، ومن ثم ما بين الأب وابنته. لنلاحظ أن هذه العلاقة المتميزة ما بين الأم وابنها استمرت في جميع الديانات وثقافات الشعوب حيث نجد أن بعض الأديان ركزت على هذه العلاقة وخصت الأم بمكانة تفوق مكانة الأب اجتماعياً ومعنوياً*(74). وذلك في محاولة لجعل تحريم الأم على الابن أعلى شأنا.


   أعاد الكثير من اختصاصيي التحليل النفسي عقدة الخصي لدى الطفل إلى العلاقة الثنائية ما بين الأم وابنها في المرتبة الأولى، ليأتي أثر علاقة الأب والابن في المرتبة الثانية. فمن خلال علم النفس التحليلي للأساطير والمعتمد تجريبياً على تحليل العصابيين، تبين أن عقدة الخوف الأولى للذكر هي فقدانه عضوه عند ممارسته الجنس، أي الخوف من العضو التناسلي الأنثوي واعتباره قادراً على الاحتفاظ الدائم بالعضو الذكري من خلال بتره. كما أن رغبة الذكر الابن بالعودة إلى رحم أمه يعكس لنا المشاعر المتناقضة ما بين الرغبة في الجماع والخوف منه في آن واحد.


   رغبة الابن الدفينة في العودة إلى الطفولة وتكرار هذه الحالة ثانية، دفعت بكثير من القبائل إلى تحريم الزواج من نساء عدة، ليتبنوا الزواج الأحادي، والمرتكزة بمفهومها على علاقة الطفل بأمه ومحاولة استرجاع لتلك العلاقة من خلال امرأته عند التصاقه بها، فقد توصل فيرينكزي إلى أن حالة القذف عند الذكر والمترافقة مع انفصال عضوه عن جسد الأنثى، يجسد بشكل لاواعي تكرار عملية الولادة من جديد. فعند تفريغ جميع الضغوطات من خلال الأعضاء التناسلية وتعميم النشوة على كافة الجسد، يضع النظام العضوي ذاته وبشكل كامل تحت تصرف الأعضاء التناسلية، ليتماثل مع العضو المنفذ، وبذلك يتطابق "الأنا" مع العضو التناسلي أثناء الجماع. لتصب هذه الدراسة بما قدمه روهيم من فرضية تطابق الأنا والقضيب، ليكون الروح مرادفاً للنطاف الخارج من عضوه.


   أما بالنسبة للقبائل التابعة لنظام التزاوج الأحادي، كقبيلة "سيمنج" التي تمنح لأفرادها الحرية الجنسية الكاملة قبل الزواج، فيلاحظ روهيم قلة احتمالات الخيانة لدى الطرفين بعد الزواج. فالزواج لديهم عبارة عن مؤسسة أساسية للتنظيم الاجتماعي، ليتشابه مفهوم الزواج مع المفهوم الكاثوليكي الذي منع الطلاق، فلا وجود لمفهوم أحقية الرجل بالزواج من امرأتين أو أكثر، أو تعدد الأزواج أو الطلاق حيث تعد كل هذه المفاهيم غير معروفة لديهم، حسب الأنتربولوجي مان. ويفسر روهيم ميل الرجل للزواج بامرأة واحدة على أنه محاولة تكرار الحياة الطفولية عندما كان الابن متعلقاً بأمه، لتبين الدراسات التي أجريت على بعض الثدييات العليا (أو "الرئيسيات")*(75) التصاق الذكر بالأنثى حتى تجاوز صغارهم مسألة الاعتماد على العناية الأمومية. وتمثل هذه المرحلة لدى الذكر طفولة ثانية، ليتماثل مع ذريته على الصعيد النفسي وليقوم الاقتران الأحادي عند الإنسان بإحياء مفهوم الثالوث الأم- الطفل- الأب وإضافة قيمة عليه، لتأخذ العلاقة الزوجية بعد مجيئ الطفل بعداً مقدساً. فتصبح الزوجة أماً ثانية للزوج بعد تماثل الأب مع الابن، وبعد أن تصبح صورة مطابقة للغرض الأصلي (أي الأم) بنظر الزوج. ومن ناحيتها تملأ القرينة وظيفتها الأمومية تجاه القرين والابن من جهة، ومن جهة أخرى تتماثل الأم مع ابنتها لتجد غرضها الأصلي (أي الأب) في الزوج - الابن، ويوجه الابن الليبيدو تجاه أمه بينما يمثل أبيه الأنا المثالي.


   من هنا نجد أن الذكر تبنى مبدأ التصعيد، أي أن دور الأنا الأعلى حسب المفهوم الفرويدي، تقمص دور الأخلاق والآلهة، بينما تعكس الأنثى الليبيدو الحر والعودة إلى الغريزة الأصلية.

 ___________________________________________________________________ 
*73- سوسانو وهو أحد آلهة الديانة الشنتوية في اليابان، فهو إله الرعد وابن إلهة الخلق والموت "ازانامي"وأخت زوجة إله "ازاناغي"، والذي قام مع زوجته بخلق العديد من الجزر والآلهة والأسلاف القدامى. تقول الأسطورة "أراد سوسانو أن يزور أخته إلهة الشمس اما-تيراسو-اوهو والتي خشيت بدورها أن يستولي سوسانو على مملكتها، فارتدت لباسا واقيا، إلا انه استطاع اقناعها بحسن نواياه، ليقسم لها بعدم التعرض وانه آت لرغبته في خلق أطفال منها من دون أي اتصال جنسي بينهما. إلا انه وبعد فترة من السلام، نكث إله الرعد وعده، ليقوم بالتهجم على حقول أخته والتبرز في القاعة الكبرى لقصرها. مما أثر هذا المشهد على نساء إلهة الشمس لتنسحب الشمس وتمكث في مغارة وتحرم الجميع من أشعتها.
 *74- أتكلم هنا عن مكانة الأم وليس المرأة. فهناك تناقض بين مكانتي المرأة والأم في بعض المجتمعات الدينية. ففي بعض المجتمعات وربما بسبب عملية التصعيد النفسية الشديدة ورفض الاعتراف بكل ما يختلج الإنسان من مشاعر ورغبات وجهلها للعملية النفسية، انشطرت الأم الى قسمين: أم وأنثى. فمن جهة ارتفعت مكانة الأم عند الابن ليقابلها تراجع لمكانة المرأة.
 *75- الرئيسيات وتصنف على انها أحد رتب الثديات العليا وتدعى " انتروبريد".