القسم الثاني الحلقة 11: الثنائي المحرم/ الجزء الأول




   نستطيع القول: إن التخيلات التي تجتاحنا عبارة عن ثمرة لصور عقلية وجدت للتعويض عن خيبات أمل أو قلق نفسي أو رغبات مدفونة تعرضت إلى انشطار وذلك لتناقض مشاعرها وأحاسيسها واحتياجاتها. ومن هذه الخيالات الحرة والمنعتقة من كل الموانع والتابوهات الخارجية، ولدت القصص الخيالية لتأخذ يوماً ما منعطفاً مؤثراً على حياتنا وطريقة تفكيرنا، فتحولت إلى وحوش وآلهة وشياطين، تجلت بوضوح من خلال الأحلام أحياناً، وأحياناً من خلال الجلسات الاستشفائية لمرضى العصاب، إلا أنه بالتأكيد يمكننا رؤيتها بشكل واضح من خلال الأساطير، القصص الخيالية، الأديان والآلهة أجمع.  

   أظهر هيربرت سيلبرر*(68) ميل الخيال في الاعتماد على أشكال رمزية للتعبير. فهناك علاقة ترابطية ما بين الرموز والخيال، فكلما ازدادت نسبة الرموز، اتسع الخيال بشكل أكبر، فنراها (أي الرمزية) واضحة في الأحلام النصفية*(69) والهلوسات والأحلام أيضاً، لتتمثل في ثلاثة مجموعات مختلفة من المفاهيم:


    1ـ محتويات الفكر والخيال وجميع المواد الفكرية سواء كانت واعية أو لاواعية.


    2ـ الشرط والنشاط وهيكلة النفس وطريقة سير العمل النفسي سواء كان بطريقة واعية أو لاواعية.

    3ـ العملية الجسدية ويقصد بها التحفيزات الجسدية.


    أعطى سيلبرر شرحاً مفصلاً لمحتويات الفئة الأولى والتي تحتوي على مواد تعبر عن تمثيلات لمحتويات عقلية، كالأفكار التي نستبطنها في جملة من سلسلة أفكار أخرى، إن كانت على شكل صور أو مجموعات صورية، أو مفاهيم وجدت للمقارنة أو لاستخراج أحكام أو لتحليل الأمور وإيجاد علاقات الارتباط والاقتران بين الأشياء والظواهر. فتكون الفانتازما المجسدة في الأحلام أو عن طريق الفن والشعر والأدب...الخ مستوحاة من جملة رغبات تعكس الرموز المستخدمة فيها صور عديدة لرغبات تبحث في خيالها أن تعيش تجربة الإشباع. أما الفئة الثانية، فنجدها غير متعلقة بمحتويات المواد الفكرية، لأنها خاصة بطريقة وأسلوب العمل الواعي من خلال سرعته أو درجة صعوبته أو مستوى الإحساس بالبهجة أو القسرية، ليكون مثمراً ومتحداً أولاً، أو مقسما إلى مركبات، ليقوم أولاً بالتبادل فيما بين محتوياته...الخ 


   يقتبس الفرد مواد رموزه الذاتية من الثقافة المشروطة، أي أن الرموز المستخدمة من قبل الأفراد تختلف حسب الثقافة الاجتماعية التي ينتمون إليها. فمن أجل تفسير الرموز المستخدمة، علينا استخدام الأحكام والمعايير والقيم التي تتبناها جماعة ما. من ثم تأتي وظيفة الرمزية عاكسة بذلك النظرة الذاتية للأشياء. فيقوم الفانتازم بالاغتذاء على كل ما استبطن، مما ينتج عنه انسحاب الفرد من الواقع إلى العالم الداخلي ساعياً للوصول إلى منابع الليبيدو، ويتم الاتصال ما بين الاستبطان والانطواء وبين الايروتيزم الذاتي ليتداخلوا مع العقاب الذاتي الناشئ عن قيود السلطة العليا. فتعكس الحكايات الشعبية والأساطير الدينية أو غيرها ثقافة جمعية تداخلت مع الرغبات المقموعة للأفراد من قبل ثقافة السلطة العليا المستمدة من قواعد وضوابط دينية أو اجتماعية أو أسروية، لتتحول جميعها إلى سلطة ذاتية لاواعية.


    تتشكل آليات الدفاع عند الطفل على فترات متعددة، فيتسم الطور الأول بحالة إنكارية للصدمات التي مر بها والمتجسدة برغبة إزالة الأعضاء الجنسية عن أهله*(70)، وكما رأينا في فصل "زنمردة الآلهة". يقوم الطفل بإسقاط الفعل الجنسي الممارس بين الأم والأب على الشياطين وجميع الكائنات ذات الطبيعة القضيبية المنتصبة، فيضاف لهذه الكائنات نشاطاً كانيباليزمياً. وكما رأينا سابقاً، تنشطر الأم والأب إلى جيد وسيئ، لتحل مكان صورة الأهل السيئة جميع الشخصيات الأسطورية بدلاً عنها.


    تقاطعت فرضية روهيم مع نظرية فيرينكزي وأطروحات كلاين التي أكدت وجود دافع عدواني لدى الطفل محدداً من خلال عوامل فيلوجينية*(71). فكما أوضحت كلاين، يعي الطفل خطر الدافع العدواني الموجه تجاه أهله، فيخشاه خوفاً من إرجاعه على جسده، وذلك لتشابه صورته الجسدية مع أهله. وتأتي فرضية روهيم في ذات الوقت موازية للعملية الفيلوجينة والأنتوجينية*(72)، لتؤكد لنا ظهور العرق البشري من أسلافه الشبيهة له، والمشابهة لانبثاق الفرد من الطفل بعد مروره بفترات نمو آليات دفاعه المنحدرة من الأنا للدفاع ضد الصدمات الطفولية ذات الطبيعة الليبيدية، فنجد أن خصائص هذه الصدمات الناشئة عن التجارب الطفولية، تعبر عن حالة جنينية للأنا الطفولي. ولهذا ينظر الطفل إلى حالة الجماع بخشية شديدة، ويعود ذلك أولاً؛ لعدم استعداده للوصول إلى النشوة، فهو لا يبحث إلا للحصول على الاكتفاء الموجود في مراحله الأولى للجنسانية الطفولية، وثانياً لعامل خوف الابن من الجسد المكتمل لأبيه وإحساسه بعجز عضوه الذكري الصغير لمنافسة أبيه للاستحواذ على أمه. لتكون هذه المشاعر التي تجتاح الطفل هي أساس النزوع البدائي والإنساني في التنديد للرغبات واتسامها بالصفة السيئة لديه، لتمثل كل ما هو هادم وخطير... يتبع 


لقراءة الجزء الثاني   ________________________________________________________________
__________________________________

 *68- .كتاب مشاكل الغموصية لهيربرت سيلبرر، قسم الاستبطان صفحة 233. 
*70- وهي حالة واعية تأتي كمرحلة أولى للنوم، لتكون بين اليقظة والنعاس. 
*71- فيلوجيني وهو علم يدرس علاقات النسب بين الكائنات الحية أو بين مجموعة نوعية بهدف فهم عملية التطور للمتعضيات، كما تتداخل دراسة الفيلوجيني مع علم الأنساب بين مجموعة كائنات حية أو تجمعات سكانية أو بين الأفراد. 
*72-الانتوجينيز وهو علم يختص بالنمو التصاعدي لمتعضية منذ بداية نشأتها حتى نضوجها.