القسم الثاني الحلقة 10: رمزية النبات والحيوان -الجزء الثاني





   نرى أن قبائل "سيمانج" كانت واعية لتلك العلاقات الجنسية بين الأخ والأخت أو بين الأهل والأولاد التي تثير غضب إلههم، لذلك لم يلجأووا إلى استخدام بعض الرموز للدلالة عليها. بينما نجد أن قبائل "اندامانيز" المجاورة لهم قامت بإخفاء معالمها، ليستخدموا الدلالات الرمزية، وبذلك تم تبديل تحريم العلاقات الجنسية بين العائلة الواحدة بتحريم أكل نبات معين، ليكون المحرم الذي منعه "بولوغا" عنهم هو أكل النبات الخاص به وقتل حشرة الزيز، والتي رأينا أنها ترمز إلى امرأته، أي نستطيع القول: إنها طريقة غير مباشرة هدفها منع أية علاقة جنسية مع الأم.

   وكما رأينا في عرض اوتو رانك لمجموعة من أساطير وحكايات شعبية تهدف إلى تفكيك لغز ولادة البطل الأسطوري وعلاقة إرضاعه من قبل حيوان أنثوي لتحاكي صورة الأم المرضعة لدى الطفل. وحسب ما قدمه رانك من تحليل، نرى أن الأم خضعت لعملية انشطار، كتلك التي خضع لها الأب أيضاً، فمن بين الأسباب التي تدعو الطفل إلى اللجوء لخفض مكانة الأم إلى حيوان، هي حاجته في طرح مشاعره المتناقضة تجاهها، وتبريراً أيضاً لمشاعر الجحود التي تختلجه بشأنها، والتي تهدف للحصول على استقلالية تامة للابن. عدا عن ذلك، فإن الحيوان البديل للأم يتيح للطفل فهم العملية الجنسية التي يحاول أهله اخفاءها عنه*(67). 

   نلاحظ في أساطير الكوسموجوني وجود تلك العلاقة ما بين الأرض والسماء والشمس... وبين جنسي الأنثى والذكر، وبعد الإطلاع على بعض أساطير القبائل الهندية والأسترالية التي تبين لنا أيضاً العلاقة المترابطة ما بين النبات والحيوان وبين الأعضاء الجنسية للذكر والأنثى، فعلى سبيل المثال، نجد أن حيوان السحلية أحد الطواطم الجنسية الرئيسية للميثولوجيا الأسترالية. وأوضح روهيم في كتبه علاقة الطوطم الجنسي بالليبيدو ليأخذ الطوطم دور تمثيله. وبهذه الحالة يمكننا القول: إن السحلية قامت بتمثيل العضوالذكري في هذه الأساطير، كما يمثل السلطعون أو العنكبوت أو اليام أو حشرة الزيز العضو الجنسي الأنثوي. لنجد أنه في إحدى النسخ المعدلة للأسطورة الواحدة والراوية عن كيفية خلق "تومو" الإنسان الأول العالم، فيخلق في البدء "بوشي" القمر ليأخذها زوجة له. إلا أن "تومو" الإنسان الأول رحل إلى السماء ليسكنها بعد مماته، وليصبح مسؤولاً عن الطقس الجيد. وبعد تكملة النص يتبين لنا اندماج الشمس مع "تومو" مما يعطي رمزاً آخر للشمس وربطه مع العضو الذكوري. كما نجد رواية شبيهة لهذه الرواية هي تلك الموجودة في معتقدات "اكا- جيرو"، حيث يكون "مايا جارا" أول كائن حي، فبواسطته ينتشر النور في هذا العالم.

   نعلم أن القدامى بجلوا القضيب المنتصب، فمنه تخرج الحياة، حسب معتقداتهم. من هنا نستطيع إجراء مقارنة بينه وبين الشمس التي تساهم في تسميد الأرض، وربطهما سوياً، مما يسمح بخلق شراكة بينهما ليكون استخدام أحدهما دلالة على الآخر. وإذا تمعنا قليلاً في تاريخ سوريا وفينيقيا...الخ نجد استعارة هذه الثقافات لذات الرموز والعبادات والتي تمت تحت أسماء مختلفة.

   لم تقتصر هذه الرموز على هذه الحضارات، فقد وجد أثرها في معظم الثقافات القديمة، فكما تمت الشراكة بين "تومو" والشمس، نجد آثار هذه الشراكة في كثير من الأساطير للسكان الأصليين في أستراليا وأمريكا. فهناك طقوس للخصوبة لدى قبائل "ماريند انيم" في بابوا غينيا الجديدة. وكما ورد في إحدى أساطيرها التي تروي عن بطلها "اناميمب" أنه ولد من جراء هراوة رميت من الهواء، لتسقط إلى الأرض على شكل حجرة نارية (وهنا يُقصد بها الحجر النيزكي عند وصوله إلى الأرض). نظر بعض سكان هذه المنطقة إلى هذا الحدث على أنه عمل آت من الشمس من أجل إرسال ابنه إلى الأرض.

   ففي إحدى النسخ المعدلة لأساطير قبيلة "أندامانيز"، نجد أن مسبب الجريمة أو الخطيئة الأولى هما امرأتان قامتا بسحق النباتات تحت تأثير أشعة الشمس. (طبعاً هناك العديد من الأساطير الواضحة في معالمها والتي يستطيع أي اختصاصي العثور على الشراكة الحاصلة بين القضيب المنتصب والشمس)، فمن بين هذه الأساطير المتعددة اعتبر روهيم أن أشعة الشمس القوية الموجودة تعكس حالة الرغبة الجنسية لدى الأنثى تجاه الذكر في هذه الأسطورة بالتحديد، وبشكل أصح، تجاه القضيب الذكري، لينتج عنه عصيان لما هو محرم. وحسب هذه الأساطير نجد أن المحرم هي الأم كما هو واضح في أسطورة السلف الكنغر الملقب بـ"جانو" الذي أخذ أمه كزوجته. وعلى شاكلة هذه الأسطورة، نعثر على أخرى توضح لنا كيف أن الأم "جاكوست" أصبحت زوج ابنها عندما انتقلت إلى الجهة الغربية.

   فهل يمكننا القول إن الأم مارست الجنس بشكل فعلي مع ابنها، وقامت بعصيان ما حرمته الجماعة عليها؟ تعكس لنا هذه الأسطورة رغبة وظمأً أولياً شديداً من الأم تجاه ابنها قبل أن تنشأ عنها رغبة متبادلة من الابن تجاه أمه. ليقوم الابن فيما بعد، وتحت تأثير علاقته بأبيه، بإجراء عملية تصعيد تلك الرغبة التي يشعر بها تجاه أمه وذلك خشية من أبيه وهدفاً منه لخدمته في مرحلة لاحقة، أي عندما يصبح بدوره أباً. اذ يمكننا القول: إن علاقة الأب- الابن وما نتج عنها هي نتيجة لعلاقة أقدم وأقوى وأكثر تعقيداً وهي علاقة الأم- الابن. كما نلاحظ أن هذه العلاقة تجسدت في أساطير أخرى، كتلك الأسطورة لذات القبيلة والتي تتكلم عن إبادة الأم الأولى البشرية كاملة انتقاماً لموت ابنها "السحلية".

   يعتقد روهيم أن استخدام رمز السحلية في هذه الأساطير كدلالة على القضيب يعود إلى قدرة السحلية على تجديد أعضائها المفقودة، ليتمكن الطفل الابن من الانتصار على خوفه من فقدان عضوه الذكري من خلال تجديده ونفي هذه العقدة.
 نلاحظ أن العلاقة الثلاثية المتلخصة بالأب- الأم- الطفل شكلت العامود الأساسي للأساطير، فكما هو واضح في جميع أساطير نشأة الكون، عملية انفصال الأرض عن السماء بواسطة فعل إرادة ابن أو أب أرادا فصل أهليهما أو أولادهما عن بعضهما البعض، كما هو الحال عند الإله "شو" الذي قام بتفريق ابنته السماء "نوت" عن أخيها وزوجها "جيب"، و"كرونوس" ابن "جايا" الذي حرر أمه من أبيه "اورانوس" بعد أن قتل وخصي أباه.
_________________________________________________________
 *67- كتاب اسطورة ولادة البطل لاوتو رانك صفحة 156-166