بعد رؤية عدد من الرسوم المنقوشة الممثلة لطواطم نباتات وحيوانات في أغلبيتها، والعاكسة لطبيعة المشاعر الدينية عند الإنسان، وجد ايميل دوركهيم ضرورة التعامل مع هذه الرسوم على أساس المبدأ الديني، فهي تحمل في طياتها مبدأ المقدس للطوطم الممنوع استهلاكه، والمدنس لما يسمح للعشائر استهلاكه بشكل يومي.
نلاحظ أن كثير من الأساطير بنيت على أساس نموذج واحد قائم على أساس انتهاك المحرم، مما دفع العديد من اختصاصيي علم النفس الانتربولوجي الخوض فيها لفك لغز المحرم والعثور على عناصره المختبئة تحت رموز عديدة. وبجولة حول ما قدمه روهيم من محاولات لحل هذه الرمزية، من خلال دراسته لعدد من أساطير السكان الأصليين لجزر "اندمانيز"، نجد أنه قد عثر على الخط الأساسي الجامع لها جميعاً والمتلخصة بتحريم أكل النبات الخاص للإله "بولوجا" (كنبات اليام) وقتل حشرة الزيز.
قبل التعمق في هاتين المخالفتين الأساسيتين، أود التطرق إلى التقارير الأثنوغرافية(*65) لـ "مان" والصورة المنقولة لـ "بولوجا" إله "الاندامانيز"، لنعثر على تشابه بين الإله "بولوجا" وبين الكثير من آلهة الأساطير الدينية، فهو كغيره من الآلهة التي لم تولد ولا تموت. فبالرغم من مظهره المشابه للنار إلا أنه يحتفظ بالصفة غير المرئية، فهو من خلق هذا العالم والحي والجماد، باستثناء القوة الشريرة، كما يتميز بالحضور في كل مكان ويتمتع بقدرة على قراءة جميع الأفكار الهاربة في أعماق الإنسان. وعلينا أن ننوه إلى أن ما يثير غضبه هو انتهاك ما حُرّم على الإنسان فعله، فهو المحاسب النهائي لكل روح إنسانية تنتقل إليه بعد الموت. أحببت أن أعرض قليلاً من صفات هذا الإله، ليقوم القارئ من تلقاء ذاته بعملية مقارنة بسيطة بين إله سكان "اندامانيز" وغيره من آلهة أخرى، كالإله الابراهيمي مثلاً.
عودة إلى المحرمات الأولى في أساطير هذه القبائل وإلى ما توصل إليه التحليل النفسي الذي أكد وجود علاقة بين هذه التابوهات وبين الممنوعات للعلاقات الجنسية بين أفراد العائلة الواحدة، لتكون الوصيتين الأساسيتين هما: لا تقتل طوطمك، ولا تتزوج امرأة عشيرتك. وتعني هاتان الوصيتان بشكل آخر حسب التحليل النفسي؛ لا تقتل أباك ولا تتزوج أمك(*66)، والتي تلخص لنا رغبتي الابن الدفينة عند مروره بمراحل النمو وتكوين "أنا" منفصل والذي لا يتحقق إلا بعد انتصاره على السلطة العليا المتمثلة بالأب لدى المجتمعات الأبوية.
لاحظ سالامون رينا أن هناك الكثير من التابوهات الواحدة المشتركة بين جميع الجماعات كتحريم قتل أي فرد من ذات الدم الواحد، وعدم ممارسة الجنس مع امرأة من ذات الدم الواحد. فوجد أن هذين الممنوعين يرتكزان على أساس احترام حياة سلالة الدم الواحد، ونبذ ممارسة الجنس بين أفراد العائلة الواحدة. أي أنه يمكننا القول: إن منع العلاقات الجنسية بين أفراد العائلة الواحدة أتت كنتيجة لازدياد الوعي عند الإنسان وقدرته على التنظيم الاجتماعي بشكل أفضل، لينظر فيما بعد إلى هذه الممارسات كخطيئة أساسية في سلوك الإنسان.
اتفق الكثير من الأنتربولوجيين واختصاصيي التحليل النفسي على أن طوطم النبات وتحريمه يرمز إلى العلاقة الجنسية المحرمة، فكل نوع نباتي يرمز إلى فعل جنسي، وهذا ما نلمسه بوضوح في المعتقدات الشعبية لبعض الشعوب، كنبات الشبت لدى الروس والمتميز بفعالية جيدة لإثارة الجنس وذلك لاستخدامه من قبل نساء عديدات في محاولة منهن لإغواء "راسبوتين"، ومثله دخل الريحان أو الحبق كمادة أساسية للتعويذات السحرية لسكان الهايتي، وذلك لاقترانه بآلهة الحب "ايرزويل".
مما لا شك فيه أن استخدام النبات لإثارة الجنس عند الطرف الآخر مرتبط بشكل أساسي بالأساطير القديمة للمجتمعات الناشئة وممنوعاتها.
واستناداً إلى ما أكدته الأنتربولوجية واختصاصية التحليل النفسي اليس بالينت، فإن الطفل يقسم الأشياء إلى اثنين، الأول وهم الأغراض التابعة له والتي يملكها، أما الثاني فهو كل الممنوعات التي لا يمكنه لمسها لأنها تخص الأب، لينظر الطفل إلى أمه على أنها خاصة أبيه، فلا يحق له الاستيلاء عليها.
ووجد روهيم أن النبات المحرم يرمز إلى امرأة الإله "بولوجا". إضافة إلى ذلك، ومما يزيد من احتمالية صحة تحليله، هي تلك النصوص التي عثر عليها والمؤكدة للطبيعة المختلفة لامرأة "بولوجا"، لتكون هي ذاتها طائر اليمام أو حشرة الزيز... يتبع
لقراءة الجزء الثاني
لقراءة الجزء الثاني
______________________________ ______________________________ ______________________________ ______________________________
*65-الاثنوغرافي هو علم الإنسان التطبيقي والمرتكز على الأبحاث الانتربولوجية، ليقدم التفاسير والتحليلات للعادات والتفاليد... للمجتمعات
*66-كتاب ذعر الآلهة لجيزا روهيم صفحة 49