القسم الأول الحلقة 10: السحر بين الخرافة والعلم




شرحت لنا بعض الدراسات والأبحاث الأنتربولوجية المبادئ الأساسية لقواعد السحر، لكنه يتوجب علينا التساؤل عن المنابع النفسية لهذه المبادئ وينبوع فكرتها الأساسية.
دعونا نخوض قليلاً في عقل الإنسان البدائي من خلال دراسات وملاحظات أجريت على بعض قبائل الشعوب الأصلية والتي ما زالت موجودة إلى يومنا هذا. فبعد إلقاء نظرة على عقائدها المستلهمة من الأرضية النفسية والشعور الذاتي، تبين أن هناك قناعة تفيد بأن بعض الأفراد يمتلكون القدرة على التحكم بكل ما يحيطهم من خلال قوة أفكارهم التي تتيح لهم الاحتكاك مع الطبيعة بكل ما تحتويه من عناصر، وقدرتهم على السيطرة على الآخر من خلال التحكم بأفكاره والذي نسميه في يومنا هذا "القدرة على التخاطر".
لقد آمن الإنسان البدائي بمبدأ قوة الفكرة المتعلقة بكثافة شديدة والتي يمكنها التعبير عن نفسها من خلال قوة الرغبة الذاتية وتمركزها عند الإنسان.
إن هذه الأفكار نشأت لدى الإنسان البدائي من خلال الملاحظات المتكررة والتي كرست لديه هذا الاعتقاد وهذه الرؤية ليسعى جاهداً في تطبيقها.
سأتناول هذا الاعتقاد من خلال نظرة عصبية، فإذا نظرنا إلى بعض المناهج التعليمية العصبية في وقتنا الحالي والقائمة على برمجة الذات من خلال برمجة اللاوعي من أجل تحقيق نجاح أكبر للفرد، نستطيع وبالتأكيد لمس التشابه والاختلاف ما بين الفكرة الأصلية للسحر وبين المنهج الجديد لآليات برمجة الذات، لنجد أن التشابه بينهما يكمن في مضمون الفكرة الأساسية المعتمدة على قوة ورغبة الفرد في تحقيق ذاته وإعادة برمجته من خلال وضع آليات تتيح له التغيير وهذا ما يسمى بـ"تطور الذات". أما الاختلاف الجذري بينهما فإنه يكمن في اعتقاد الإنسان البدائي بقدرته على التأثير على القوى الطبيعية وتسخيرها من أجل مصلحته من خلال قوة أفكاره.
 نلاحظ أن مبدأ البرمجة الذاتية وقدرة الإنسان في إحداث تغيير على الذات نابع من رغبة الفرد بإجراء بعض التعديلات على ذاته من أجل إحداث بعض التغيير على المعطيات الخارجية، فالخارج والذات مرتبطان بعملية "فعل ورد فعل"، وهما متعلقان بشكل أساسي بعملية الوعي والإدراك عند الفرد، لنلاحظ سعي الإنسان البدائي من أجل تسخير القوى الخارجية ساهم لاحقاً وبشكل خفي في تكوين البذرة الأولى للعلوم ودفعته لوضع الأسس الأولية لها. لأن رغبة الإنسان وقوة إرادته في تحقيق أفكاره جعلته أكثر إصراراً لإيجاد الحلول والوسائل من أجل تحقيق أفكاره. كما أن الإرادة عامل مهم في عملية البحث عن وسائل متعددة، فهي المحفز الأول للخيال والإبداع.
وبما أنني بصدد الكلام عن الحوافز النفسية، سأتطرق وبلمحة سريعة ومختصرة إلى التجارب الحديثة التي ساهمت في إيجاد تفاسير علمية لآلية الحوافز النفسية المبطنة وتأثيرها على السلوكيات الظاهرة. 
فحسب تجربة بوورز عام 1984 والتجارب اللاحقة، كتجربة "وينبرجر وهارداوي" سنة 1990، فقد توصل الباحثون في العلم الدينامي والعلم المعرفي إلى نتائج تأثير التمثيلات تحت-الواعية المثيرة لأفكارنا ومشاعرنا، ليستنتجوا أن غالبية العمليات الإدراكية والمعرفية والعاطفية والدوافع المحركة لنا هي في الأساس لاشعورية.
أما وعينا فله قدرات محدودة ووظيفته الخاصة هي إدراكنا الذاتي للأفكار والعواطف. فهو يقوم بتسهيل عملية التأقلم من خلال إنشاء علاقة بيننا وبين المحيط، كما يقوم بعملية التحكم بالأفكار والسلوكيات. وبعد تجربة ليونيل نكاش وداهين سنة 2000، فقد استطاع هذا الباحثان أن يستنتجا أن الوعي هو الذي يحدد المصير النفسي والدماغي لعدة عمليات إدراكية لاواعية. أي قدرة تأثير الوعي على التمثيلات العقلية اللاواعية. ومن هنا نرى أن العلم الحديث أتاح للإنسان تغيير سلوكياته التي تعيق تطور شخصيته، وذلك من خلال وجود تمارين "للإيحاء الذاتي" التي تهدف إلى تغيير بعض من التصرفات وإنجاح بعض الرغبات. هذا العمل يتم من خلال إنشاء واعي لشيفرات محركة تستخدم بشكل لاواعي لوضع استراتيجيات تحكمية واعية تؤثر على بعض المعالجات اللاواعية. أما تأثير اللاوعي على الإنسان فهو يتم بآلية تصاعدية للمعلومة من اللاوعي إلى الوعي. فمثلاً في مرحلة التعلم، تتم تغيرات في المشابك العصبية لتساهم في هذه التعديلات شيفرات بنيوية لاواعية، كما تعتمد آلية التعلم أولاً على الإرادة ليتم تدوالها فيما بعد بشكل لاواعي من أجل تشكيل نشاط لاواعي غني بأفكار جديدة. ولهذا نجد أن الحلول تأتي بعد التخمر اللاواعي من خلال جمع معطيات كثيرة من قبل عدة شبكات عصبية ليقوم بتنسيقها ودراستها ومن ثم عرض عدة حلول مستقلة عن بعضها البعض في آن واحد.
اخترت وضع هذا الملخص عن أثر الوعي على التمثيلات العقلية اللاواعية وأثرها أيضاً على الوعي، للفت انتباه القارئ إلى التشابه الكبير في الفكرة الأساسية المتمركزة على قدرة وإرادة الإنسان والتي نبع منها المفهوم الأولي للسحر وقدرة الأفكار في إحداث تغيير ما.

ولكن مما لا شك فيه أن السحر اتجه بشكل رديء في تفسير قدرة الأفكار في إحداث تغيير للظواهر الطبيعية أو تكرارها من خلال التقليد أو التشبه بها. إلا أن العامل المشترك ما بين السحر والعلم هو تلك الرغبة والإرادة لدى الإنسان التي تمنحه الإصرار في فهم واكتشاف ما يحيط به بهدف إيجاد الحلول وتوفير حياة أفضل له. كما أن هناك قاسماً مشتركاً بين الفكرة الأولى للسحر والقائمة على عدم ضرورة وجود وسيط شخصي أو روحي للتأثير، وبين العلم المؤسس على نظريات يتم تأكيدها من خلال تجارب عديدة يشرف عليها عدد من الخبراء، ترى أنه لا وجود لقوى غير ملموسة متحكمة بمصائرنا ومستقبلنا.
_________________________________________________________________________________________