القسم الأول الحلقة 9: السحر ومبدأ العدوى




يعتمد السحر على مفهوم "المقدرة الكاملة للأفكار" ومبدأ التحكم في الظواهر الطبيعية. فكما قال جيمس فريدزر "أخطأ البشر عندما جعلوا النظام الطبيعي مصدراً يعكس من خلاله طريقة تفكيرهم، فأعتقدوا أنهم قادرين على التحكم بالطبيعة وبكل ما يحيط بهم كتحكمهم بأفكارهم".
هذا الطرح الذي اعتمده الإنسان كطريقة للحياة جاء نتيجة فشله في التحكم بالظواهر الطبيعية وإخفاقه في الانتصار على الموت. فالإحباطات التي عاناها مطولاً صدرت عن عجزه في التحكم بما هو خارج عنه، الأمر الذي قاده إلى خلق قوى خارقة غير ملموسة يمكنه إرضاءها من خلال طقوس وعبادات كان يقوم بها في مرحلة سابقة كمرحلة السحر. فإذا دققنا جيداً في مبدأ السحر والدين نجدهما يخضعان لأرضية مشتركة، تجمع في بعض خصائصها بين الساحر ورجل الدين، فكما كان السحر وسيطاً بين الإنسان العادي والطبيعة الخارجية. نجد أن رجل الدين قد احتل مكان الساحر ليصبح وكيلاً عند الله.
نشأت فكرة السحر من مبدأين حيث اعتبر فريدزر أن المبدأ الأول يستند إلى فكرة الشراكة، أي أن الأفكار المتشابهة والمشتركة ببعض الخصائص تستطيع اجتذابها والتأثير عليها، حيث يكون المفعول مطابقاً لفاعله أو لمسببه. وقد لقب هذا المبدأ بقانون التشابه، ليسمى السحر الناشئ عن هذا المبدأ بسحر المثلية. أما المبدأ الثاني فيتمركز على قانون مبدأ الاتصال والعدوى والذي فسر على أساس استمرارية مفعول الأشياء عند اتصالها بها واستمرارية تأثيرها، أي ما بعد توقف الاتصال. بمعنى آخر، عندما يدخل الغرض باحتكاك مع الآخر يستمر تأثيره عليه حتى ولو انقطعت عملية الاحتكاك به. لهذا يعتقد الساحر أن بإمكانه ومن خلال قدرته إنتاج أي أثر مرغوب به على أي غرض بواسطة عملية التقليد. وهكذا، ومن خلال شيء مادي، يستطيع أن يتحكم بأي فرد إن دخل هذا الشيء أو الغرض بعملية احتكاك معه (يمكن للشيء أن يكون قطعة مفصولة أو مطروحة من فضلات الفرد نفسه كالأظافر أو الشعر...الخ)*(17). ويلقب هذا السحر بالتجانسي المؤسس على شقين متمثلين بالسحر المثلي والتجاوري. 
لاحظ الأنتربولوجي جيزا روهيم أن هذا النوع من السحر غير موجود عند القبائل التي كانت تعيش في وسط أستراليا، بينما نراها منتشرة عند قبائل الـ"تارومباس" والقبائل المجاورة حيث يأخذ الساحر بعض فضلات الفرد ليحرقها في عظمة ما، أو في نبات الخيزران بهدف إصابة الفرد الضحية بمرض ما. أما قبائل الـ"واكاس" والـ"كابيس" فإنهم يجدون في الفضلات وسيلة للقضاء على الفرد المعني*(18).
أضفى روهيم تفسيراً تحليلياً لعملية استخدام فضلات الفرد الناتجة عن الخوف في استخدام هذه الفضلات المطروحة من الجسم ووضعها بين غصنين ليقوم الساحر بحرقها. جاء هذا الاعتقاد من فكرة تمثيل الغصنين لساقي الأنثى، فالشجرة ترمز للأم عند القبائل الأسترالية، كما يرمز الغصنان إلى الساقين وما بينهما هو العضو الأنثوي.
لم تقتصر رمزية الشجرة على القبائل الأصلية الهندية أو الأسترالية، بل نرى امتداد هذا الرمز جغرافياً إلى منطقة بلاد ما بين الرافدين، لتشكل عنصراً هاماً في أساطيرها كما في أسطورة "سفر التكوين". لترمز شجرة الـ "مانجا" عند القبائل الطوطمية إلى مسكن يجمع أرواح أسلاف ذوي قدسية معينة، فتكتسب بعض الكائنات التي تلمس الشجرة أو تقترب منها ذات القدسية. فنجد على سبيل المثال إن كل طائر يحط على الشجرة يصبح مقدساً، وذلك لمشاركته بذات الخصائص التي تتمتع بها الشجرة، فيصبح الطائر بدوره تابو يُحرم على الإنسان لمسه. أما وظيفة الـ "شيرونجا" فهي تطهير الإنسان والأشياء. بينما نجد أن "الشيرونجا" في علم النفس التحليلي له بعدٌ آخر، فهو يرمز إلى القضيب الذكوري، أما ضياعه أو فقدانه (أي الشيرونجا) فله دلالة نفسية تعكس عملية الإخصاء لدى الذكور.
عودة إلى المبدأ الثاني في السحر والمبني على فكرة العدوى (حسب فريدزر)، ومقارنته مع خصائص المقدس التي تتسم بعدواها (حسب دوركهيم). نلاحظ أن هناك تطابقاً بين الفكرتين من حيث المضمون، فكلاهما يعتمدان على مبدأ الاتصال والعدوى المستمرة حتى عند انقطاع التواصل بين الأشياء أو الكائنات، لاسيما وأن الأشياء والكائنات المقدسة عبارة عن عناصر في الطبيعة تحيطها قوى طبيعية ذات طاقة عالية حيث تستطيع التأثير على كل من يلامسها، لا بل أكثر من ذلك، تتمتع هذه القوى باستمرارية التأثير على الآخر حتى في حال انقطاع الاتصال بينهما. فنلاحظ أن هذه الفكرة لعبت دوراً هاماً في تخصيب فكرة التطهير من أي شيء تم انتهاكه، فعند الرجوع إلى القاعدة البدائية لفكرة التطهير، تبين أنها ناتجة عن ضرورة ملحة لوقف التأثير السحري الممارس على الغرض. إذ يمكننا القول إن الفكرة البدائية للتطهير كانت خالية من فكرة استرضاء المقدس أو القوى الطبيعية. وبشكل آخر نستطيع أن نقول إن مبدأ الاسترضاء جاء نتيجة لفكرة الاستسلام للقوى غير الملموسة ومرافقاً لعملية تطور الفكرة الأصلية.
وحسب دوركهيم، فإن خصائص المقدس مقسمة إلى خاصيتين أساسيتين؛ أولها "السلبي" (الذي يناظر القدرة على العقاب)، وثانيها "الإيجابي" (الذي يناظر القدرة على الثواب). وهاتان الخاصيتان نجدهما في طرح فريدزر عند شرحه للسحر التجانسي الذي يعتمد هو أيضاً على شقيه الإيجابي المتمثل بالشعوذة، والسلبي المتمثل بالتابو. بينما تحفز الشعوذة على فعل شيء معين للحصول على المكافأة المبتغاة، فإن التابو كابح يمنع من فعل شيء معين لتجنب البلاء.
لا شك أن السحر والدين اشتركا ببعض المفاهيم كضرورة حتمية في فصل الأشياء غير المتجانسة عن بعضها. حتى أننا وليومنا هذا نستطيع لمس هذا المفهوم، فمثلاً، عند بعض اليهود الأرثوذكسيين، اليهود المتشددين نجد آثار هذا الموروث القديم حيث تُفصل، على سبيل المثال، المواد الغذائية عن بعضها عند غسلها أو عند تقديمها في أطباق معينة، كما يتم تخصيص الأطباق حسب تجانس المواد الغذائية فيما بينها.
مما لا شك فيه أن آثار السحر والخرافة استحوذت على بعض الممارسات اليومية، ويعود ذلك بالطبع إلى ارتداء الخرافة والسحر زياً دينياً، كما نلاحظ أن جميع الأديان قد استلهمت قوانينها وفروضها من معتقدات قديمة لاستحالة نسف كل ما تؤمن به الجماعة من قبل، فكما قال ويل ديورانت "يدعم الدين الأخلاق من خلال وسيلتين أساسيتين وهما: الأساطير والمحرمات، فالأساطير تخلق العقيدة فيما وراء الطبيعة". ولهذا لا يمكننا فصل السحر عن المعتقدات التي لحقته فيما بعد، فأي قانون أو معتقد أو فكرة جديدة، نلمس فيها شيئاً من الرواسب القديمة للشعوب.
لا تتوقف النقاط المشتركة بين السحر والدين على مبدأ فصل الأشياء غير المتجانسة فقط، بل نجد مفهوم فصل المقدس عن المدنس في الطقوس الدينية يشبه إلى حد كبير الممنوعات الموجودة في مفهوم السحر المرتبط بالتابو. فمثلاً لا يمكن لغير المطلعين على الطقوس أن يلمسوا الـ "شيرونجا" المقدس، فالتعلم والتلقين يضفي على الفرد شيئاً من القدسية، لهذا نلاحظ أن بعض القبائل الطوطمية تحذر وتعاقب أفرادها من استهلاك الممنوع، إن كان نباتاً أو حيواناً أو غرضاً غير حي، فلا يسمح باستهلاكها إلا من قبل الشيوخ الذين وصلوا إلى درجة عالية في ممارسة الطقوس وفهمها لاستهلاك هذا الممنوع. من هنا نلاحظ التشابه الكبير أو بالأصح الأرضية المشتركة بين فصل الممنوع عن الأفراد الذين يمارسون يومياتهم بشكل عادي وبين مبدأ المقدس المفصول عن المدنس. فالمدنس يعبر عن اليوميات العادية الخالية من أي طقوس أو احتفالات.
من هنا نستطيع القول إن السحر والدين جاءا من أرضية واحدة. أما بالنسبة لبعض الفوارق التي تميز بينهما، ومن أهمها مشاعر تبجيل المقدس في الأديان، الناشئ عنه شعور بالخطيئة في حال انتهاك المقدس والذي نتج عنه فيما بعد تطبيق عقاب بشري إضافة إلى العقوبة غير الملموسة والصادرة عن ذات إلهية أو عن أرواح مقدسة... على أي فرد يقوم بمخالفة القواعد الدينية. بينما يقوم السحر على أساس المنع المادي من خلال إحداث ضرر جسدي لأي فرد ينتهك الممنوع، أي أن العقاب يأتي لتكريس المنع، ولكنه لا يأتي لعدم الإطاعة، كما هو الحال في مبدأ العقاب للأديان، وذلك لأن السحر خال من فكرة الخطيئة التي نراها ركيزة أساسية للفكر الديني.

من هنا لاحظ دوركهيم أن العقوبات الجسدية أتت فيما بعد كضرورة نفسية لخشية المقدس وفرض احترامها على الأفراد، كي تزيد من عملية بناء حواجز وروادع نفسية عند الفرد بهدف إعاقته في تحطيمها ورضوخه الكامل لها، حيث نجد أن هذا المنع المرتبط بالعقاب تجلى في أشد حالاته عند تعرض الفرد لفكرة المقدسات في الأديان. أما السحر فقد خلى تماماً عن فكرة احترام الممنوع، انما نراه ناتج عن خشية من مخاطره التي يمكن أن تصيب البشر في حال لمسها أو الاقتراب منها*(19).
_____________________________________________________________________________________________

*17-جيمس فريدزر: كتاب الانسان والاله والأبدية، وكتاب جيزا روهيم: الروحانية والسحر والملك الالهي.
*18-جيزا روهيم: الروحانية والسحر والملك الالهي صفحة 21.
*19-ايميل دوركهيم: الطقوس السلبية ووظيفتها صفحة 437.