القسم الأول الحلقة 12. اللاوعي: منبع الأساطير والآلهة - الجزء الاول






تقاربت الأفكار والتحاليل فيما يخص الأساطير ومنابعها النفسية لدى الأثنولوجيين والأنتربولوجيين، فكما وجد الأنتربولوجي والأثنولوجي بول ايرينريتش أن الأساطير تعبر عن الظواهر النفسية الجمعية وعن نظرة وتعبير الجماعة لمفهوم العالم وعلاقة الإنسان البدائي بما يحيطه. وجد اختصاصي النفس والفيزيولوجي فيلهيلم وندت أن الأساطير تستمد وجودها من طرح المشاعر والأحاسيس والدوافع الإرادية والرغبات بكميات مكثفة على الغرض الخارجي لتمنحها حياة ووجداناً.
وبالمقابل اعتبر فرويد أن الروحانيات آتية من ذات المصدر التي أتت منه أول المحرمات والممنوعات الأخلاقية، فقد وجد أن المفهوم الأسطوري المتشعب بالأديان، ما هو إلا نتاج للأفكار والرغبات النفسية الدفينة المطروحة إلى الخارج. وعلى نفس الوتيرة قسّم كارل يونغ عملية نتاج الأفكار إلى قسمين:
1ـ الأفكار الموجهة والتي يعلن عنها العلم في أعلى درجاتها والمرتكزة على عملية التعاصف الفكري.
2ـ الأفكار غير الشفهية واللامباشرة والمتشاركة فيما بينها والتي تعلن عن نفسها من خلال الأحلام في بعض الأحيان، كما وجد يونغ أن هذين الشكلين من الأفكار يتشكل عنهما نشاطين مختلفين؛ الأول هو التأقلم مع الواقع الخارجي والعودة إلى المصالح الذاتية، لتكون الأفكار اللامباشرة هي من تحدد خصائص الثقافات البدائية. لهذا نجد أن يونغ ركز على المعنى الحي للأساطير، ليجدها عبارة عن محاولة لفهم ما يجري في لا وعي الإنسان والعاجز في ذات الوقت عن التحرر منها حيث لا يتم ذلك إلا من خلال طرح هذه الإسقاطات اللاواعية(*20).
 من هنا نجد أن الخيال الإبداعي يشكل ركيزة هامة وإلهاماً لأساطير وحكايات شعبية، لتأخذ تحفيزاتها من ذكريات التجارب المتراكمة في فضاء الأحلام، فيتم طرح هذا النشاط إلى فضاء سماوي، وهكذا تتحول المشاعر والإنفعالات والرغبات التي يعيشها الإنسان في واقعه المشروط ضمن قواعد جماعية إلى أشكال وروايات وأبطال قصص وأساطير وأديان، فتهرب من واقعها الأرضي إلى سماوات تسكنها أشباح الإنسان المتقمص بآلهة تتحكم بواقع جماعي وتحرم الفرد من إشباع غرائزه ورغباته، لا بل أكثر من ذلك، تجعله يشعر بالخجل من الاعتراف بما يختلج في داخله الداكن العميق الباحث عن الاكتفاء، لنجد أن الأساطير والغيبيات ما هي إلا محاولة لتعويض حاجة نفسية لم يستطع الفرد تحقيقها على أرض واقعه.
وهكذا نستطيع فهم الأساطير على أنها تعبير عن ردود أفعال تم طرحها من قبل الإنسان على عالم سماوي أو خيالي غيبي ابتكره (الإنسان) كضرورة ملحة لتعويض ما ينقصه وما حرمته إياه الجماعة من ممارسات وتصالح مع الذات.
 فإذا تساءلنا، على سبيل المثال، عن الدلالة النفسية لمفهوم "القدر"، نجده وكما فسره فرويد على أنه بديل لسلطة الوالدين المعززة بـ "الأنا الأعلى" ليكون الصوت الداخلي لصوت الأهل الناهي للفرد عن كل ما لا يتوافق مع القواعد والموانع (الأنا الأعلى) المكتسبة من الوعاء الأسروي. وهكذا يصبح الأنا الأعلى مكاناً للقيم والأحكام الأخلاقية حيث يتم تحديد الخير والشر، فيصبح الفرد رقيباً على ذاته. ولكن خوف الفرد من فقدان الحب والأمان الآتيان من الأهل، يجعله يبحث عن بديل لتعويض هذا الشعور من خلال إيجاد سلطة عليا غيبية بديلة.
سأتطرق قليلاً وبشكل مختصر عن العلاقة ما بين اكتفاء الحاجات البيولوجية الأولية كالطعام والشراب والحنان التي يوفرها الأهل للطفل وبين علاقة الفرد بالغيبيات، لتتبين لنا، وكما أوضح لنا اختصاصي الأعصاب ميكائيل برسينجر علاقة الشراكة اللغوية التي تمر بطريقة لاواعية، فنرى أن التصاق الوجبات الطعامية مع مفردات الشكر للإله أو لقوى غيبية كفيلة بمنح الفرد شعوراً نفسياً لحاجته الماسة للغيبيات. يتعلق الطفل بأمه كونها تؤمن له حاجاته الأولية كالطعام والدفء والحماية... وفي ذات الوقت ومن خلال شراكة لغوية يقوم الأهل بعملية تداخل هذه الحاجات مع مفردات شكر لكل ما هو غيبي، فيصبح الإله أو القوى الغيبية مرافقة للحاجات البيولوجية للإنسان، وبما أن شعور الضمان وحماية الأهل لأطفالهم يتلاشى عبر الزمن، وذلك لأسباب عديدة، منها:عدم استمرار الأهل في الحياة، تبدأ عملية التعويض عن فقدان الضمان في فترة الطفولة الناتجة عن عجز الطفل عن تحمل مسؤوليته وعن الدفاع عن نفسه، ليقوم بعدها باستبدال الأهل بقوة عظمى لامحدودة أو إله جبار.

سلّط علم النفس الضوء على العملية النفسية الذاتية ودوافعها لتحريض الخيال في خلق أساطير وأبطال وأديان عبرت جميعها عن الرغبات الدفينة العالقة بلا وعي الإنسان، فاعتبر جاك لاكان علاقة الإنسان مع ذاته على أنها علاقة تعذيب ذاتية نابعة عن الشعور بالذنب، والناتجة عن تخلي الإنسان لممارسة أفعاله. فالفعل، على حد تعبير جان بيير فرنان، متلازم مع الإنسان، لأن الفعل هو من يحدد علاقة صاحبه بكل ما يحيطه والمستمد من "انانكي"(*21). فبالرغم من البعد الجمعي لـ "انانكي"، إلا أنه علينا تسليط الضوء على العملية الداخلية والمعركة الذاتية بين ما يريد الفرد فعله وبين ما يُفرض عليه من فعل. فمن هذه التفاعلات النفسية المتصارعة يولد البطل الهارب من منطق القانون، ليتأرجح بين عالمين من صراع ينتهي باعتراف الإنسان باقترافه "هيبريس"(*22)، وهذا لا يتم إلا من خلال تحمله للمسؤولية أولاً وقبول العقوبة ثانياً، أي بمعنى آخر الرضوخ إلى القدر والتخلي عن مبدأ التغيير، وبعدها يتحتم على البطل الاتجاه نحو منبع العراك الداخلي الذاتي... يتبع

لقراءة الجزء الثاني
__________________________________________________________________________________________

*20-عند الكلام عن موضوع الإسقاطات الى الخارج عن طريق الأساطير والتي تشكل الينبوع الأول للأديان، علينا أن نسلط الضوء على هذه الرغبات الدفينة العاكسة لغرائز جنسية قمعت من قبل الجماعة (وهذا ما سأتطرق اليه في القسم الثاني، لتسليط الضوء على فرضيات ودراسات قامت بتحليل هذه الرغبات التي تحولت الى محرك رئيسي لعملية خلق الأساطير)
*21-انانكي: كلمة اغريقية تعبر عن تجسيد القدر والحتمية، فهي السلطة العليا والتي تمثل في الدلالة النفسية لدى فرويد بالأنا الأعلى.
*22-هيبرس وهو مفهوم أخلاقي اغريقي مستوحى من المشاعر القوية المنفعلة والخطأ الأساسي للحضارة والتي تعادل مفهوم الخطيئة في الدين المسيحي، وبمعنى آخر الجريمة الأولى. كما نجد عقاب عدة شخصيات من بينها "تانتال" و"مينوس" و"اتري"...الخ من قبل الآلهة لاقترافهم "هيبرس" أي الخطيئة في الميثولوجيا الاغريقية.