القسم الأول الحلقة 8. التابو: أحد المنابع الأولى للأخلاق الجزء الثالث



لقراءة التابو: أحد المنابع الأولى للأخلاق - الجزء الأول
         التابو: أحد المنابع الأولى للأخلاق - الحزء الثاني


قبل تكملة الحديث عن تحول التابو إلى معتقدات روحية، لا بد لي من التنويه أن التابو قد اقترن بالسحر أولاً، فالسحر هو الأكثر بدائية ونشأته أقدم من نشأة الأرواح التي هيأت شكلت نواة الروحانيات. فنشأة الروحانيات أتت من ذات المنبع الأول للقوانين الأخلاقية التي خضعت بدورها للأسس الأولى للمحرمات. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن السحر والشعوذة كانا نتاجاً مباشراً تلازم مع مبدأ الروحانيات الذي مر بدوره أيضاً بمراحل متنوعة، لاسيما وأن السحر قام على مبدأ "قوة الأفكار ومقدرتها"، بينما استمدت أشكال الشعوذة الأخرى من تلك "القوة" مبرر وجودها.
لقد عرفت جميع المجتمعات أنماطاً مختلفة من التابو. فكان مرحلة ثقافية ضرورية لتحقيق تحول جديد في المفاهيم الأخلاقية. نظر سيغموند فرويد إلى التابو على أنه وليد المشاعر المتضاربة والمتصادمة فيما بينها، فهو ناتج عن معارضة ما بين الألم الواعي والاكتفاء اللاواعي، لتتم عملية الإسقاطات الداخلية على الخارج المحيط. فعملية الإسقاط، حسب التحليل النفسي، عبارة عن آلية نفسية خاصة بطرح المشاعر البغيضة إلى العالم الخارجي وفصلها عن الشخص الذي يعاني منها ليتم لصقها بشخص آخر. من هنا نلاحظ كيفية إسقاط المشاعر البغيضة اللاواعية للأفراد والصاقها بـ"الديمون" أي الشياطين والعفاريت الممثلين لتابو الموت، وبمعنى آخر، الممثلين لمشاعر الخوف من الموت عند الإنسان. لنجد أيضاً أثر مشاعر الخوف على الأخلاق، لتكون إحدى المحركات الأساسية لنشأته، ولتكون مشاعر الخوف مما نجهله عاملاً مهماً في تحويل هذه المشاعر إلى قوة مستقلة تخرج من داخل الإنسان إلى خارجه لتتحكم به وتساهم في استمرارية جهله لها، وبالتالي ساعدت في ولادة قناعات لديه لينظر إليها على أنها حقيقة مطلقة ولا مجال للتفكير بها مجدداً أو نقدها. هكذا يبقى الإنسان تائهاً عن المعرفة وخاضعاً لتضارب مشاعره الداخلية. والناشئ عن هذا التضارب هو فقدان السيطرة على الذات. من هنا نجد أن التشبث في أبدية واهية تعكس هذه المعاناة. ولأن الموت سببَ للإنسان البدائي هاجس الفناء، فخاف منه ليبدأ في رحلة عقيمة باحثاً عن روحه المفقودة، من ناحية، وعن الخلود من ناحية أخرى.
هذا البحث عما وراء الموت نجده واضحاً في أسطورة الملك "ميداس" الراكض وراء الديمون "سيلين" لمعرفة الشيء الذي يجب على الإنسان تفضيله على جميع الأشياء الموجودة واعتباره قيمة عليا، ليجيبه "سيلين" مخاطباً العرق البشري بسخرية "يا أيها العرق الفاني والتعيس، يا طفل المصادفة والألم، لماذا تجبرني على البوح عما كان من الأفضل لك جهله؟ فما ترغب بتفضيله لهو صعب المنال، فكان من الأفضل لك عدم ولادتك، وأن تمكث في العدم. ولكن بعد كل هذا، وبما أنك وجدت في هذه الحياة، فالأفضل لك الآن أن تتمنى موتك باكراً للعودة إلى العدم".
إن تسليط الضوء على التفاعلات النفسية للبشر في جانب من التاريخ، يدفع إلى ملاحظة هامة وهي أن الإنسان قام ببناء صور شتى للعالم الخارجي على أساس تجربته الداخلية المرتكزة على عملية الإدراك الداخلية والمشاعر المختلطة فيما بينها ليكون لها أثر على المفهوم الإدراكي. فنشأة الوعي الأخلاقي ناتجة عن رفض الأفراد لبعض الرغبات الداخلية الناتجة بدورها عن رفض الجماعة لها. فالإنسان البدائي بدأ بوضع قواعده الأخلاقية تدريجياً متماشياً مع حالته النفسية. ولكنه تحول إلى "أخلاقي"، ليس لقدرته على أن يرى قيماً عليا، بل لسبب يتعلق بجهله لبعض الظواهر الطبيعية التي أججت حالة القلق والأرق لديه. فمن أجل الهروب من هذه الحالة، لجأ الإنسان البدائي لعملية اسقاط الداخل على المحيط الخارجي وتفسير الخارج حسب مشاعره الداخلية ليعطي مفهوماً "أنوياً" جماعياً للأشياء.

ارتكز السحر على المقدرة الكاملة للإنسان واستطاعته التحكم بكل ما هو خارج عنه من خلال قوة أفكاره، بينما تخلص المفهوم الروحاني من التركيز على قوة الأفكار لدى الإنسان ليحيلها إلى قدرة خارقة لا يلمسها، والتي تتجلى بالأرواح والعفاريت. ويعود ذلك الى عجز الإنسان البدائي عن الانتصار على الموت. ومن هنا تشكلت نواة الروحانية الأولى.
__________________________________________________________________________________________