مدخل


 


راودتني أسئلة كثيرة حفزتني لتدوين بعض النظريات والمحاولات الجادة التي قام بها كثير من علماء الأنتربولوجيا والآثار والنفس للبحث عن تاريخ الإنسان المختبئ في أجواف الكلمات والمخطوطات والآثار المتبقية، وذلك في إطار مشروع حول "الدين والثقافة والجنس"، أتمنى أن أجعل من هذا المؤلف جزأه الأول.
في هذا الكتاب، سأسلّط الضوء على مرحلة ما قبل حقبة الروحانيات والتي صاغ بها الإنسان الأول الركائز الأولى للأخلاق، حيث أبحر مع وعيه الأخلاقي في خضم معطياته النفسية التي جعلته يُنصّب في أعماق نفسه قاضياً يستمد قوته من ذاته الداخلية، قبل أن يعود ليُهرّب هذه الذات من قضبان النفس الداخلية إلى الأفق الخارجي فيما بعد.
نشأ الوعي الأخلاقي من رغبات نفسية فردية، كان قد تم جمعها وغربلتها لتشكل سلوكيات أخلاقية تصب في مصلحة الوعاء الجماعي. حيث تغيرت هيكلة هذه السلوكيات، عبر العصور والأزمنة، تحت مؤثرات عدة، بما فيها عامل المناخ، لتتحول إلى ركائز أخلاقية للشعوب، وإلى ممرات مختلفة لتطور الثقافات.
فإذا دققنا النظر في تاريخنا البعيد المليء بالطقوس والخرافات، سوف نرى كيف أن هذه الخرافات ساهمت وإلى حد بعيد في تطور البشرية، فكانت جزءا من ذلك الانتقال التدريجي الذي عرفته الإنسانية. حيث أدت تلك الخرافات والطقوس، ليس في القليل من الأحيان، إلى تقديم ضحايا بشرية، إلا أنها كانت مقدمة لتأسيس مناهج وصيغ جديدة بين الأفراد والعشيرة تمهيداً لترسيخ شكل النظام الهرمي للمجتمع.
ساهمت هذه الخرافات في تطور مفاهيم المجتمع وكوّنت أسس النظام الاجتماعي القائم على أعمدة عدة، منها: السلطة - الملكية الخاصة - الزواج واحترام الحياة البشرية(*1).
وبما أننا نتكلم عن الأسس والأخلاقيات الأولى التي عرفتها الجماعات، فلا بد لنا من التكلم عن سكان القارات الأصلية التي عرفتها القارتان الأمريكية والأسترالية. فمن خلال هذه الجماعات التي ما زالت موجودة إلى وقتنا هذا، استطاع اختصاصيو الأنتربولوجيا تسليط الضوء على هيكلتها الاجتماعية، للغوص أكثر في منابع الأخلاق تدفقاً، واكتشاف الجذور الأصلية للأديان والآلهة التي مهدت من خلالها أرضية خصبة لظهور أخلاقياتنا الراهنة، لتتغذى من خيالاتنا الطفولية وتعشعش في عقولنا قبل أن تترعرع وتتحول إلى ثوابت تعيق حركة الدماغ والقدرة على التفكير، فنتحول بسببها إلى آلات مبرمجة. هذه الثوابت لم تفعل سوى أنها ألغت الفردية وألزمت الكتلة الجماعية بأن تستند على حقبة تاريخية معينة وعلى إطار ديني محدد سيكون هو الآمر الناهي لعقولنا وأجسادنا.
وعلى الرغم من أن الطريق الذي شقته العلوم والمعارف الحديثة واضح إلى حد معقول، إلا أن مُتداوَلنا المعرفي ما يزال يواجه ضبابية في إيجاد التفاسير التي تشرح التطور التاريخي للفكر البشري، حتى ترانا نلجأ إلى تفاسير بسيطة لا تروي ظمأ إنسان يحاول ترتيب تاريخ الفكر والعقائد بطريقة موضوعية.
إذ إن أصحاب التوجهات الفكرية والعقائدية الكبرى يصبغون رؤيتهم لهذا التاريخ بنفس لون الخلفية التي قدموا منها. فالدينيون، مثلاً، يستمدون قناعاتهم وأخلاقياتهم ومفاهيمهم من أساطير قديمة تراكمت على مر العصور لتشكل بنيتهم الداخلية للإدراك.
استمدت تلك الأساطير قوتها الطاغية من واقع تم تضخيمه عبر جموح الإنسان الأول للسفر في الخيال فمهدت لانتقاله من عالم الخرافة إلى عالم الروحانيات.
إلا أننا اليوم استطعنا أن نحقق تقدماً ما بفضل ذاك الكم من الدراسات والأبحاث التي ساعدت في تفكيك أسرار التاريخ العقائدي. ويعود ذلك إلى فضل العلوم الحديثة التي ساهمت في سبر أغوار الاعتقادات الأولى التي ابتدأها الإنسان بسطوع شمس وعيه. فالعلم هو ذاك المراقب للظواهر الذي يقوم بجمعها وإعادة ترتيبها من خلال فكر مجرد من العواطف والميولات والقناعات الذاتية والجماعية كي يصل إلى نتائج أقرب ما يمكن إلى الواقع.
مما لا شك فيه أن من أصعب الأشياء على الإنسان أن يغيّر من معتقداته التي بنى عليها تاريخاً كاملاً وحياة برمتها. ويعود ذلك لرفض انصياع تركيبته النفسية لمتطلبات التأقلم مع المعطيات الخارجية الجديدة، مما يؤدي إلى نشوء ضغط بين تلك النفسية وبين الركائز المسجلة في داخله. وعادة ما يقود هذا الضغطُ الإنسانَ إلى التشبث بأوهام لا تلبث أن تُدخله في دائرة ضيقة ينتج عنها انكماش فردي ومن ثم جماعي، يدفع بالإنسان وبمجتمعه إلى العيش في قوقعة عزلة مدمرة.
إن التشبث بالقديم لا يعود إلى عجز العلم عن اعطائنا الأجوبة، بل يعود إلى الخوف من الشعور بالخطأ. فإذا امتلكنا الشجاعة الكاملة للنظر إلى الماضي البعيد وتفكيك محتوياته، عندها نستطيع اقتحام فضاءات واسعة من المعرفة ليتملكنا الشعور بالفخر. فعندما تبدأ أصابعنا بلمس ذاك الوهج الكاشف لأعماق البشرية الغائصة في كينونتها الطبيعية، سوف نتعلم أن الخطأ جزء لا يتجزأ من الصواب، بل هو الطريق المؤدي إلى فتح محاور متعددة للمعرفة نفسها، وعندئذ سوف نقتنع بأن العلم هو الوحيد القادر على ارتداء ثوب جديد يستطيع تغييره دائماً، لأن نظرياته قائمة على التجارب الدؤوبة. ولسوف نستطيع أيضا القفز عالياً للحصول على أجوبة أرهقنا البحث عنها لزمن طويل.
هذه الأجوبة التي طالما بحثنا عنها في محيطنا الخارجي ومن ثم في مخيلتنا وأعماق نفوسنا، هي ذاتها المعرفة المتراكمة عبر الأجيال التي علمتنا ألا نخاف من الهدم بهدف بناء معرفةٍ تروي ذلك الظمأ المتعطش من أجل اكتفاء الرغبات الدفينة الباحثة عن أبدية ذاتية إلى اللانهاية.
لا شك أن تحلينا بمرونة التفكير يؤهلنا للإمساك بالحقائق، والسير بها على نحو متوازٍ مع خطوات العلم السريعة، لننشئ علاقة بين الأشياء والأفعال والحاجات النفسية التي تنبع عن حاجات فيزيولوجية تتفاعل فيما بينها لتمكننا من التوصل إلى إمكانية استمرار وجودنا، وبذلك يتحول ذلك الإله الثابت القابع في أنفسنا إلى إلهٍ تندمج به المعرفة مع النفس البشرية لتلتقي بعدها مع كل شيئ حي. وعندها سوف يكون بوسعنا أن نتوحد، وتتوحد معنا جميع الكائنات في وعاء واحد لنشكّل تلك القوة الطبيعية الساكنة في كل ذات. إلا أننا لا يمكننا أن نصل أو أن نلمس تلك القوة إلا بعد رفض كل الثوابت المسبقة لنصبح أجزاء من متحول.
لقد أعددت هذا الكتاب، ليس من أجل نفي أو إثبات ديانات أو أخلاقيات، وإنما من أجل أن ننظر في سراديب الذات التي جاءت منها. وهذه خطوة أولى فيما أظن أنه مشروع يستحق التوغل فيه بهدف التحرر من جميع القيود التي تكبل فكر الإنسان من أجل ولادة جديدة للفرد في هذه المجتمعات.

ر. ق.
__________________________________________________________________________________________________________________________

  1. جيمس جورج فريدزر: الإنسان، الإله والأبدية، منافع غير مباشرة للخرافة والدفاع عنها.