المقدمه بقلم علي الصراف






الضياع والفضيحة في غرفة خزف

علي الصراف


الجنس هو الأصل؛ هو الطبيعة الأولى للحياة. أما الأخلاقيات التي حاولت تنظيمه، فليست سوى فروع أضاعت الطريق الى أقامة علاقة قويمة مع الوجود.
هذا هو كل ما حاولت رندا قسيس أن تبرهن عليه.
لقد أضعنا الطريق. ولكن ليس لمرة واحدة فقط، بل مرتين. الأولى، عندما أخرجنا الجنس من طبيعيته لنمارسه كنوع من قيود وضوابط وحدود. والثانية عندما حوّلناه من فوضى غرائز الى نظام اخلاقي صارم.
في الضياع الأول، لم يعد الجنس جنسا، لا بالمعنى الإنساني ولا بالمعنى الطبيعي. فالممارسة الغريزية صارت عملا آليا من جهة، ومحملا، من جهة أخرى، بالكثير من الافتراضات والأوهام والمخاوف والأساطير.
أما في الضياع الثاني، فقد تم تتويجه بالأديان التي حاولت أن تضفي على تلك الأساطير طابعا مقدسا.
هذا التصعيد الذي صار إلهيا، الى أبعد الحدود، لم يُفقد الجنس معناه ووظيفته فحسب، ولكنه أخرج الأخلاقيات عن إطارها الذي كان يمكنه أن يُعنى بالرقي الاجتماعي والإنساني.
لا شك أن نوعا من التنظيم كان ضروريا للحفاظ على آلية ما لاستمرار النوع، وللمحافظة على الاستقرار الاجتماعي نفسه. إلا أن انفلات ذلك التنظيم ليصبح جزءا من مقدس أسطوري، جعل من الجنس أداة للتشويه والدمار الذاتي أكثر منه لحفظ النوع.
وما من أحد في ثقافتنا العربية، تمكن من أن ينبش جذور الحقيقة في العلاقة بين الأصل والفروع مثلما فعلت قسيس.
وكما لو انها اغلقت على نفسها الباب في غرفة خزف، فقد حطمت رندا كل الأيقونات والمزهريات والأصص الثقافية التي تحيط بعلاقة الإنسان بطبيعته. وقطعة قطعة، كشفت عن الجهل والمخاوف التي احاطت بفكرتنا عن الجنس، وعن السبب الذي جعل "المقدس" ضروريا لتنظيمه.
ولن تجتاز عتبة الخاتمة، في هذا الكتاب، حتى لتدرك أن هذا العمل يفتح الأبواب لثورة اجتماعية تنقلب على الجنس، ليس بأقل من إنقلابها على المقدس نفسه.
لم تفتقر رندا الى الجرأة في القول. ليس معروفا عنها ذلك أصلا. ولكن، مثلما جاز لها أن تسخر من كل أولئك الذين يكتفون بالعنوان ليحكموا على المضمون، فانها، في هذا الكتاب، كشفت عن الفضيحة في ثقافتهم. وقدمتها لهم على طبقٍ من معنى أكثر نقاء من الذهب.
لقد تركت العلوم والمعارف تتكلم، على طول الوقت. وقلّبت من صفحات الخبرات الإنسانية الكثير. ومثل سائق ماهر في طريق وعرة، قادت قسيس قارئها الى شاطئ أمان مختلف، هو شاطئ الإدراك بما يدرك!
وهذا خير ما يمكن لمثقف أن يفعل. 
لقد أضاءت قسيس منطقة مظلمة في ثقافتنا، مستخدمة الكواشف الضوئية نفسها التي أنارت الطريق للآخرين.
وبالمعنى الاجتماعي للكلمة، فان عملا كهذا، سيقدم نفسه ليس كبحث في الفكر والعلوم، وانما كركيزة من ركائز الثورة ضد الجهل والتخلف والظلم.
لقد أرادت قسيس أن تتفحص معالم وتضاريس أخلاقياتنا وطبيعتها الدينية، ولكنها انتهت الى ما يمكن أن نعتبره مشروعا للتحرر، لم تتمكن أحزاب بكاملها أن تخوض فيه.
ولئن عرفت الثقافة العربية مشاريع فكر تحرري يبدأ من الدعوة الى المساواة بين الرجل والمرأة، فسطّرت أعمالا خالدة لمفكرين وثوريين كبار، مثل الطاهر الحداد وقاسم أمين وسلامة موسى، وتاليا نوال السعداوي، إلا أن رندا قسيس تقطع الخطوات الأخيرة التي لم يكن في حسبان مشاريع التحرر السابقة أن تقطعها.
بل إنها تقطع عليها، هي نفسها، الطريق. وذلك بوصفها مشاريع تحرر، أولا لم تؤد الغرض منها، وثانيا، ظلت قاصرة عن ملاحقة ما تراكم من معارف في مجال العلوم الانسانية.
لقد حاول أولئك الثوريون أن يكسروا أيقونة التمييز، وأن يطيحوا ببعض مظاهر الظلم الذي لحق بالمرأة (بوصفها موضوعا اجتماعيا يستحق العطف عليه). 
لقد ذهبت قسيس الى أبعد من ذلك بكثير. إذ كسرت أيقونة الأخلاقيات الدينية نفسها، وكشفت عن فضيحتها، كعلاقة جهل وخوف وتشويه. 
ولكن قسيس لم تتوقف عند هذا الحد أيضا.
أولا، لا توجد إمرأة في هذا الكتاب. وبالتالي لا يوجد "موضوع اجتماعي" يستحق العطف عليه. ولكن يوجد جنس. وهذا موضوع إنساني، "فوق اجتماعي" بكثير. إنه موضوع تم تركه للعلوم والمعارف الحديثة، وليس للبيانات أو للدعوات ذات الطابع النبيل.
ثانيا، إنها تقترح مشروع تحرر مختلف، لا يطالب بالمساواة! بل يسخر، ضمنا، من المطالبة بما تجاوزته البشرية منذ زمن بعيد. ولكنه يطالب بالقاء نظرة انثروبولوجية ونفسية على ما نؤمن به أو ما نفكر فيه.
"ما بعد الأنثوية" العربية قد لا تبدأ إلا من هنا. إلا أن هذا المشروع ليس إطارا نظريا للسير في هذا الاتجاه. إنه عمل لكشف الجذر الأسطوري لأخلاقيات مزيفة، تم رفعها الى مصاف المقدس لكي لا تُمس.
لقد وضعت رندا قسيس يدها على المحرم، وكشفت عن وجه طوطمه. 
إنه بذلك، كتاب كفر، من الطراز الأول. وكاتبته تستحق الرجم. ولكنها لا تخشاه.
ليس في هذه الدنيا معرفة تستحق أن يخافها المرء. كما أنه ليس فيها ما يبرر التلحف بأساطير لتجعلنا نستقيم مع أخلاقيات ثبت أنها أخلاقيات تعسف واستبداد وظلم.

لقد آن الأوان لتحطيم ما تبقى من خزف في هذه الغرفة.